إيران .. تطلعات توسعية ورغبات مفرطة للسيطرة على الشرق الأوسط

تشهد المنطقة العربية منذ النصف الأخير من العام الماضي 2010 ثورات عارمة أطاحت ببعض الأنظمة الشمولية، وعلى وشك الإطاحة بما تبقى من هذه الأنظمة القمعية، ويبدو أنّ تسمية هذه الثورات بـ ''الربيع العربي'' لما لها من أثر بالغ في البيئة السياسية والاجتماعية في هذه الدول والعالم بأسره قد لا يأتي جزافاً بسبب التغيير الشامل الذي بدأ ينتشر في الشرق الأوسط، لكن ما يحدث ربما لا يروق لعدد كبير من المهتمين بالشأن العربي وعدد من المنتمين لبعض الأجندات الإقليمية والدولية والعروبية، حيث يبدي هؤلاء خشيتهم من التغيير الذي بدأ يزحف نحو المنطقة ليضع حداً لعصور من حكم الحزب الواحد والعائلة في منطقتنا العربية خوفاً منهم - على حد وصفهم - من تفشي حالة اللا استقرار في هذه البقعة الحيوية من العالم، وكذلك لما يمكن لهذا التغيير من منح النظام الإيراني فرصة ذهبية لبسط هيمنته على البلدان العربية ليتمدد أكثر مما يفعله الآن في لبنان والعراق وسورية وفلسطين ودول الخليج العربي، وفي هذا الإطار نشرت مجلة شؤون الأمن الدوليThe Journal of International Security Affairs في طبعتها الجديدة الصادرة 17 آب (أغسطس) بحثاً حول مستقبل النفوذين الإيراني والأمريكي في المنطقة العربية تحت عنوان Sands Shifting تناولت فيه الباحثة Amitai Etzioni خريطة النفوذين الأمريكي والإيراني في منطقة الشرق الأوسط من منطلق ما تشهده المنطقة من فوضى سياسية شاملة، لذلك بدأ الشعور بالقلق مما يقوم به النظام الإيراني من ممارسات سلبية حيال الربيع العربي يسيطر على دوائر صنع القرار في الدول الغربية يتمثل في الخوف من نفوذ الحركة السلفية الجهادية المدعومة من قبل طهران في المنطقة (التي أصابها إحباط تام نتيجة ما يجري في العالم العربي الآن من تطورات لا تصب في مصلحتها)، حيث ترسم كاتبة البحث الصورة للمتتبع في أربعة متغيرات ستحدث في المنطقة في المستقبل إذا استمر الوضع على ما عليه في معظمها تصب في مصلحة النظام الإيراني، التي لا تخفي معظم الأطياف في العالم العربي خوفها من دور هذا النظام المدمر في الدول العربية.
أولاً: تقلص النفوذ الأمريكي مقارنة بفترة ما قبل الثورات العربية (الربيع العربي) في الشرق الأوسط.
ثانياً: تعاظم الدور الإيراني في مساحة واسعة أكثر مما كان عليه قبل عام 2011، خاصة تزايد نفوذها بين شيعة المنطقة.
ثالثاً: معظم شعوب المنطقة، خاصة الشريحة المثقفة ترى أنّ الانسحاب الأمريكي من العراق قد يؤدي إلى ترك الساحة خالية للنظام الإيراني. على هذا الأساس بدأ يعبر هؤلاء عن معارضتهم لما ستؤول إليه الأمور بسبب التعنت الإيراني وطموحاتها العسكرية ونهم هذا النظام في التوسع والسيطرة على المنطقة (فعلى سبيل المثال نشرت صحيفة ''الشرق الأوسط'' الثلاثاء 8 شوال 1432هـ 6 أيلول (سبتمبر) 2011 العدد 11970 نقلاً عن العميد محمد حسن نامي، رئيس المؤسسة الجغرافية في القوات المسلحة الإيرانية، خبراً يشير إلى زيادة غير مسبوقة في المساحة الإيرانية أكثر من 200 ألف كلم مربع عن المساحة المعلنة، ألا يعد هذا الخبر في التوقيت الراهن مؤشراً واضحاً على التوسع والرغبة في السيطرة والهيمنة، دون توضيح السلطات الإيرانية مصدر الزيادة في المساحة التي تتعارض مع القانون الدولي وحسن الجوار؟!).
وأخيراً: الدور الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط يرتبط بمدى تحديد معالم العلاقة مع إيران وطريقة التعامل مع هذا النظام في المستقبل، كما أنّ هذا الدور منوط بشكل كبير بالطريقة التي تتعامل بها إيران مع الأحداث إذا كان من الممكن إحباط طموحات إيران في محاولة فرض هيمنتها العسكرية على المنطقة، فسوف يبعث ذلك على اطمئنان حلفاء الولايات المتحدة وأصدقائها في المنطقة بشكل ملحوظ حيال النظام الإيراني، وأن واشنطن سيهدأ روعها سياسياً حيال النظم الإقليمية المختلفة. من ناحية أخرى، إذا لم يتم ردع إيران، فإنه على ما يبدو يتعين اتخاذ الخيار الحاسم للمسار الذي سيتزايد فيه بشكل متزايد استخدام القوة. من هنا فإن التعامل مع إيران بالنسبة للولايات المتحدة بمنزلة اختبار حاسم للتعبير عن مصداقية واشنطن وتعبير صادق عن سعيها إلى حسم المشكلة الإيرانية (المزمنة) في هذه المنطقة المضطربة على نحو متزايد.
كما تشير الباحثة إلى نقطة في غاية الأهمية وهي أنّ استمرار حالة عدم الاستقرار السياسي في الدول التي تكللت فيها الثورات العربية (تونس، مصر، و...) بالنجاح سيساعد على تغلغل إيران في هذه الدول ليحل محل النفوذ الأمريكي الذي كان سائداً قبل الإطاحة بحلفاء واشنطن، فكلما امتدت رقعة اللا استقرار من البحرين واليمن نحو الأردن وبقية الأقطار العربية، خاصة لو أخذنا في الاعتبار عدم رسو سفينة الديمقراطية في الدول التي شهدت ثورات وظل الاضطراب سيد الموقف فإن ذلك من شأنه إطالة أمد مخاض اللا أمن، وهذا الأمر سيهدد المنطقة برمتها، ولا ننسى أنه في الوقت نفسه يخدم الأجندة الإيرانية في المنطقة، فلا ننسى أنّ التغيير الديمقراطي المطلوب في دول مثل كوريا الجنوبية وتركيا وإندونيسيا وشيلي تطلب سنوات عديدة لتصل فيه هذه الدول إلى طموحاتها في الديمقراطية وتأمين متطلبات الشعب، وإذا نظرنا إلى تدني مستويات مطلوبة للديمقراطية مثل خفض معدلات البطالة والأمية وهشاشة مؤسسات المجتمع المدني، فإن ذلك سيزيد الطين بلة في الدول العربية والآفاق المستقبلية للتغيير الديمقراطي في هذه المنطقة.
بالنسبة لمصر ما بعد الثورة فإنها تشكل مفترق طرق بين طهران وواشنطن، فرغم أنّ البعض في الولايات المتحدة ينظر إلى الاضطرابات في مصر على أنها خطوة نحو الديمقراطية، إلا أنّ إيران ما زالت متمسكة بتسميتها القديمة للثورات العربية (الصحوة الإسلامية)، حيث كان خامنئي قد وصف الثورة المصرية في أحد خطاباته بأنّ ما يحدث في مصر عبارة عن ''نهضة إسلامية للمطالبة بالحرية''، أما بالنسبة للإخوان المسلمين، وهم حلفاء طهران في مصر والمنطقة، قد تغيرت مواقفهم بالنسبة للعقود المنصرمة من التشدد والتقوقع على الذات، فقد بات هذا التيار يبدي مرونة نحو العمل السياسي وقضايا إقليمية أخرى، لكن لم يمنع ذلك من حدوث انشقاقات في التيار بسبب التشدد والمرونة التي ينقسم فيها أتباع التيار بالنسبة للثورة المصرية والاعتراف بإسرائيل.
أما بالنسبة للموقف الرسمي المصري من إيران فيتأرجح الموقف الرسمي ما بعد الثورة بين مطالبة البعض بإعادة العلاقات مع إيران ورفض البعض الآخر عودة العلاقات ما لم تعترف طهران بحقوق مصر في المنطقة العربية، وظلت واشنطن تتبع سياسة تهدئة الوضع في مصر ومخاطبة الجميع من الإخوان للتيارات العلمانية حتى المجلس العسكري الانتقالي الحاكم في مصر، وهي سياسة تعديل كفة ميزان القوى في مصر، وهذا ما تحاول اتباعه طهران بالنسبة لمصر حتى حليفها النظام السوري بعدما تسربت أخبار عن لقاء مسؤولين مع معارضين سوريين في الخارج وتغيير لهجة الزعماء السياسيين والعسكريين الإيرانيين حيال إمكانية حدوث أي تغيير في سورية، وتصريحات نجاد التي تدعو الأسد للحوار مع المعارضة وإيقاف العنف وما أعقبها من أخبار تناقلتها وكالات الأنباء عن تغيير مفاجئ في الموقف الإيراني، كان آخرها ما نقله موقع ''العربية نت'' في الجمعة 11 شوال 1432هـ - 9 أيلول (سبتمبر) 2011م عن طمأنة قائد ''فيلق القدس'' قاسم سليماني رجال الدين في مجلس خبراء القيادة بأن إيران لن تتضرر بمصير الأسد، وهذا مؤشر واضح على عزم طهران التخلي نسبياً عن الأسد لمصلحة نفوذها بين المعارضة السورية، وهي سياسة تغليب الأمر الواقع التي ينتهجها النظام الإيراني على مدى أكثر من ثلاثة عقود تحت طائلة ''المصلحة العليا للنظام ''وهي ليست سوى ''تقية سياسية'' مستوحاة من المنهاج المذهبي الشيعي الحاكم في إيران، كما أنه يصب في خانة مساعي طهران لامتصاص الغضب الجماهيري العربي بعد مواقفها غير المتزنة المؤيدة حيناً لقمع السوريين من قبل نظام البعث السوري، والمعارضة حيناً لما يحدث في أقطار عربية أخرى لم تشهد عُشر ما حدث في سورية.
يسعى النظام الإيراني جاهداً إلى وضع خطوط حمراء أمام الدول العربية ليضيق الخناق عليها حسبما يعتقد ويوسع دائرة نفوذه، وكذلك كي يجد منفذاً للهروب إلى الأمام من هذا الجو الخانق الذي صنعه وابتلي بصنيعته، بسبب ما سيتعرض له الداخل الإيراني من هزات ارتدادية نتيجة الربيع العربي، من هنا قام بإعلان أن البحرين خط للمواجهة مع السعودية وعمل على تأليب الشيعة الموالين له ضد حكوماتهم، لكن بعد تقاعسه في الوصول إلى مبتغاه أدار ظهره عن البحرين، وهذه ليست المرة الأولى، فحرب تسعينيات العراق (ما تسمى بالانتفاضة الشعبانية خير دليل على تخليه عن الشيعة)، متجهاً هذه المرة نحو العراق ليمده بمشاريع من القتل والدمار ليبقى حديقته الخلفية في مواجهة المشروع العربي من خلال أحزاب طائفية تمسك سدة الحكم في هذا البلد وتنفذ الأجندة الإيرانية بأكمل صورة في سورية ولبنان لتجسد الهلال الصفوي بأدق التفاصيل، من هنا على الدول العربية مسؤولية التركيز على دعم الجماعات المعارضة للنظام الإيراني وكذلك الشعوب غير الفارسية في إيران لإجهاض مخططات طهران من ناحية ووأد الفتنة الطائفية في الأراضي الإيرانية وليس خارجها، وكلنا يعلم أنّ هذه الظاهرة يغذيها النظام الإيراني وينميها في أراضيه ثم يصدرها إلى دول الجوار، وهي الخطر الماثل الذي يدهم المجتمعات العربية بصورة شرسة فـ ''آخر الداء الكي''.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي