معضلة المدخرين
إن أسعار الفائدة تقترب الآن من الصفر في مختلف أنحاء العالم المتقدم (الولايات المتحدة، أوروبا، اليابان). ولكن الاقتصاد العالمي آخذ في التباطؤ، والأسواق المالية دخلت في حالة من الفوضى أثناء الصيف. وهذا يشير إلى أن المشكلة أعمق كثيراً من مجرد عدم كفاية الحوافز النقدية.
إن قلب أي اقتصاد يتمثل في الآلية التي يتم من خلالها توجيه الأموال من المدخرين إلى المستثمرين. وفي الأوقات العادية، تؤدي الأسواق المالية هذه الوظيفة بسلاسة؛ ولكن هذه الأسواق تنهار من وقت لآخر، بفعل التغيرات الضخمة الفجائية في التصورات بشأن مدى خطورة فئات الأصول الرئيسية المهمة.
وفي الولايات المتحدة، حدث هذا عندما اكتشف المستثمرون أن حتى الأوراق المالية المدعومة بالأصول والمقيمة بالتصنيف (أأأ) كانت في واقع الأمر محفوفة بالمخاطر. كما شهدت الصين مفاجأة مماثلة عندما خسرت الولايات المتحدة تصنيفها (أأأ). ولكن المشكلة لم تكن أكثر حِدة مما هي في أوروبا الآن، أو منطقة اليورو بالأحرى، حيث اكتشف المدخرون الألمان فجأة الخطر الكامن عبر البلدان الواقعة على المحيط الخارجي لأوروبا.
وما ينطبق على ألمانيا ينطبق أيضاً على أغلب بلدان شمال أوروبا، التي يحتفظ عديد منها الآن بفوائض في الحساب الجاري أضخم من الفوائض لدى ألمانيا كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي. وتستمر الأسر في تلك البلدان في الادخار وتكديس الودائع لدى بنوكها المحلية وشراء السندات من مديري الثروات المحليين. ولكن هذه الأسر تشعر بأن منطقة اليورو أصبحت في موقف خطير حتى لم يعد بإمكانها مجرد التفكير في الاستثمار في الخارج.
أما اليونان وإيرلندا والبرتغال فهي خارج الحدود لأن سنداتها لم تعد مصنفة على الدرجة الاستثمارية، وهذا يعني أن البنوك ليس مسموحاً لها ببيع السندات للمدخرين الأفراد. ولكن على الرغم من تصنيف إسبانيا وإيطاليا على الدرجة الاستثمارية فالآن تم تصنيفهما فجأة على أنهما غير مستقرتين، وهذا يعني ضمناً أن مديري المخاطر في كل مكان ينصحون المستثمرين بخفض تعرضهم لهما.
والمشكلة الأساسية هنا بسيطة: فمن غير الممكن حمل السوق على العودة إلى التوازن عندما لا يرغب المدخرون في إقراض أولئك الراغبين في اقتراض تلك المدخرات.
وخفض سعر الفائدة ليس حلاً لهذه المعضلة. ففي الولايات المتحدة لم يتعاف الطلب، على الرغم من ثلاث سنوات من أسعار الفائدة الأقرب إلى الصفر. وفي أوروبا، تعني الفائدة الأكثر انخفاضاً المجازفة بالتسبب في تفاقم المشكلة من خلال خفض العوائد بالنسبة للمدخرين. فعندما يهبط العائد على السندات الحكومية الألمانية إلى 2 في المائة، يصبح بذلك سلبياً من حيث القيمة الحقيقية، ويتعين على المدخرين الألمان أن يضاعفوا جهودهم لتحقيق هدف معين للحصول على دخل التقاعد.
ولهذا السبب فإن الدوامة الحالية من أسعار الفائدة المتزايدة الانخفاض في ألمانيا (وشمال أوروبا) وعلاوات المخاطر الأعلى بالنسبة لأغلبية بقية بلدان منطقة اليورو تشكل تهديداً مدمرا. وعلى هذا فإن أسعار الفائدة الأكثر انخفاضاً قد تؤدي إلى انخفاض معدلات الاستهلاك في بلدان الفائض، وبالتالي زيادة المعروض من الأموال المتاحة للإقراض. ولكن علاوات المخاطر الأعلى في أماكن أخرى ترغم بقية بلدان منطقة اليورو على خفض الإنفاق، وبالتالي تقليص الطلب على هذه الأموال.
والواقع أن أسواق الأوراق المالية تتراجع لأن المستثمرين يخشون أن تؤدي علاوات المخاطر المتزايدة الارتفاع في البلدان الواقعة على المحيط الخارجي لمنطقة اليورو إلى إرغامهم على التوقف عن الاستهلاك والاستثمار، على النحو الذي قد يؤدي إلى انخفاض الأسعار الألمانية وبالتالي حث الأسر الألمانية على خفض استهلاكها. ولكن ضعف الاقتصاد الألماني من شأنه أن يزيد من صعوبة التكيف في البلدان المحيطية.
إن الطريقة الأكثر تطرفاً لكسر هذه الحلقة المفرغة تتخلص في طرح سندات اليورو. وآنذاك فإن علاوات المخاطر الوطنية ستختفي، ولن يجد المدخرون الألمان مشكلة في استثمار مدخراتهم في بلدان منطقة اليورو المحيطية، إذا ما أدركوا أن الحكومة الألمانية ستضمن سندات حكومات هذه الدول في نهاية المطاف. وآنذاك، قد يتعافى اقتصاد منطقة اليورو بسرعة.
ولهذا السبب يرغب المشاركون في السوق في تكرار مقولة مفادها أن الحل الوحيد للأزمة هو سندات اليورو. ولكن سندات اليورو من شأنها أيضاً أن تخلق مشكلات هائلة فيما يتصل بالحوافز، وذلك لأن المدينين في بلدان منطقة اليورو المحيطية لن يضطروا إلى الخوف بعد ذلك من أي عقوبة من قِبَل الأسواق، وقد يحضهم ذلك على الإسراف في الاستهلاك والاستثمار.
إن أوروبا تحتاج إلى آلية تسمح لأسواق رأس المال بالعمل أغلبية الوقت، ولكنها تتيح التدخل عندما تتوقف عن العمل. أو بعبارة أخرى، تحتاج منطقة اليورو إلى صندوق نقد أوروبي يعمل على منع هذه الحلقة المفرغة من الاستحكام من خلال توفير التمويل المؤقت عندما تنهار أسواق رأس المال. والآن توجد لدى أوروبا مؤسسة مماثلة في هيئة مرفق الاستقرار المالي الأوروبي - ولكن مرفق الاستقرار المالي الأوروبي لا بد أن يحظى بتمويل أفضل كثيراً حتى يتسنى له أن يتولى هذه المهمة بنجاح.
ولكن حتى إنشاء صندوق النقد الأوروبي لا يكفي لإنقاذ الاقتصاد العالمي إذا انهارت الثقة بين الصين والولايات المتحدة. والواقع أن خسارة الولايات المتحدة تصنيفها (أأأ) يُعَد بمثابة الإشارة الأولى إلى فقدان المنفذ الأكثر أهمية للمدخرات الصينية الفائضة بريقه.
الواقع أن الدرس العام المستفاد من أزمة اليورو وخفض تصنيف الولايات المتحدة بسيط للغاية، فنظراً لاحتفاظ عديد من الدول بمدخرات فائضة مزمنة (ألمانيا، اليابان، الصين، والبلدان المصدرة للنفط)، فإن اقتصاد العالم لن يتعافى من دون إيجاد السبل الكفيلة بتوجيه هذه المدخرات الفائضة إلى الاقتصادات التي تتمتع بالجدارة الائتمانية والاستعداد للاقتراض. وسيكون لزاماً على كل من الجانبين أن يبذل الجهد: حيث يتعين على الدائنين أن يتقبلوا بعض المجازفة، ويتعين على المدينين أن يعملوا على تحسين جدارتهم الائتمانية من خلال التكيف المالي البنيوي والإصلاحات الرامية إلى تحسين توقعات النمو.
خاص بـ «الاقتصادية»
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2011.