الأزمة الاقتصادية الأوروبية.. هل من مبرر لكل هذا الهلع؟
إن أبلغ تلخيص للمشكلة هو ما جاء على لسان الرئيسة الجديدة لصندوق النقد الدولي في الأسبوع الماضي حين تحدثت عن ثلاثة مخاطر:
1- خيبة الأمل الشديدة حيال التوقعات المستقبلية لاقتصاد أوروبا التي تقدرها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية بـ2 في المائة فقط لهذا العام (2011) مقارنة بـ2.7 في المائة للولايات المتحدة وما سينتج من ذلك من استفحال البطالة.
2- الديون السيادية للعديد من الحكومات الأوروبية، خصوصا تلك الأعضاء في الإتحاد النقدي (اليورو).
3- الوضع غير السليم للبنوك الأوروبية سواء من حيث قلة ملاءة رؤوس أموالها أو رداءة الأصول التي في حوزتها أو المستوى المنخفض للسيولة التي تحت تصرفها.
سأحاول إلقاء الضوء على هذا الموضوع بدءا بالمشكلة اليونانية، ثم وضع البنوك الأوروبية، ثم النقاش الدائر حاليا بين أوروبا والولايات المتحدة، ثم الحلول المقترحة، وأخيرا تبعات كل ذلك على الدول العربية، وعلى الأخص دول مجلس التعاون.
النار الإغريقية
دعونا في البداية نحاول حل أحجية حزمة الإنقاذ اليونانية. هناك الحزمة الأولى التي اتفق عليها الأوروبيون مع صندوق النقد الدولي في بداية الأزمة والتي بلغت 110 بلايين يورو. وعندما تطورت الأزمة اتفق في الربع الثاني من هذا العام على حزمة ثانية مقدارها 109 بلايين يورو للسنوات الثلاث المقبلة. من هذه الحزمة الجديدة 57 بليون يورو تمثل ما تبقى من الحزمة الأولى، أخذا في الاعتبار أن الاحتياجات المقدرة لليونان خلال هذه السنوات الثلاث هي في حدود 172 بليونا. والفرق بين هذين المبلغين سيتم تمويله من بيع بعض أصول الحكومة اليونانية إضافة إلى الاقتراض من البنوك التجارية. وقد استلمت الحكومة اليونانية الدفعة الأولى من الحزمة الجديدة ومقدارها 12 بليون يورو في تموز (يوليو) الماضي. وكان المفترض أن تستلم الدفعة الثانية ومقدارها ثمانية بلايين يورو في أيلول (سبتمبر) الجاري. إلا أن دفعها تأخر نظرا للشكوك التي أثيرت حول مدى جدية الحكومة اليونانية في تنفيذ ما التزمت به من جهة والصعوبات السياسية التي صادفتها بعض الدول الأوروبية للموافقة على هذه الحزمة، ومن ذلك:
1- أن الحكومة اليونانية لم تبدأ بعد في بيع أي من الأصول التي وعدت ببيعها.
2- لم يتم الاستغناء عن أي من موظفي الحكومة التي وعدت الحكومة اليونانية بالاستغناء عنهم.
3- كانت حصيلة جمع الضرائب أقل بكثير من المبالغ التي تعهدت الحكومة اليونانية بجمعها.
4- تطالب الحكومة الفنلندية بالحصول على ضمانات عينية قبل الموافقة على هذه الحزمة، كما أن برلمان تشيكيا لم يوافق حتى الآن، إضافة إلى إن الحكومة النمساوية ما زالت مترددة بالموافقة.
وغني عن القول في هذه العجالة أن الحكومة اليونانية ليست متحمسة لهذه الحزمة؛ لأنها تحملها وتحمل الشعب اليوناني كامل أعباء برنامج التصحيح الآن ومستقبلا. هذا في الوقت الذي استطاعت حكومات كثيرة في أمريكا اللاتينية وأوروبا وآسيا تقليل ديونها عندما مرت بأزمات مماثلة، وذلك عن طريق تخفيض أصل الدين وحسم جزء كبير من الفوائد. إلا أن الدول الأوروبية وخصوصا الرئيسة منها لا تقبل بهذا الحل المتعارف عليها تاريخيا وبين البنوك؛ لأن ذلك قد يعرض بنوكها لخسارة كبيرة وربما يؤدي إلى إفلاس بعضها؛ مما سيدفع حكوماتها لدفع مبالغ أكبر لإنقاذ هذه البنوك.
وفي هذا السياق يتكرر طرح السؤال: هل الأفضل لليونان ومنطقة اليورو أن تنسحب اليونان من العملة الموحدة، وبذلك يمكن لها أن تمتنع عن الدفع إلى أن تصل إلى ترتيب مقبول لها مع البنوك أسوة بما سبق أن فعلته الدول الأخرى عندما واجهت مشاكل مماثلة، كما يمكن لبقية أعضاء منطقة اليورو في هذه الحالة التحلل من تبعات هذه المشكلة؟... ولمحاولة الإجابة عن هذا السؤال يمكن القول إن مثل هذا الترتيب قد يكون في صالح اليونان عندما بدأت الأزمة، إلا أن الوقت قد أصبح متأخرا من جهة، كما أنه سيفاقم مشاكل البنوك ويضفي ظلالا من الشك على مستقبل الوحدة النقدية، وربما الاقتصادية الأوروبية بشكل عام، من جهة أخرى.
وما أدراك ما البنوك
عندما دخل عدد من الدول الأوروبية في نظام اليورو، أصبحت ديونها الحكومية وسنداتها السيادية متقاربة من حيث أسعار الفائدة ومن حيث المخاطر. فأقبلت البنوك على شرائها، ومما شجعها على ذلك أن البنك المركزي كان الأوروبي يقبل هذه السندات. ويحولها إلى نقد (أي يوفر السيولة اللازمة) لأي بنك يحتاج إلى سيولة مقابل هذه السندات. وبمجرد انفجار الأزمة أصبح الفرق في العائد على هذه السندات من دولة إلى دولة كبير جدا (نتيجة الزيادة في المخاطر). وبدأ البنك المركزي الأوروبي يتباطأ في قبول السندات السيادية الأوروبية؛ مما فاقم الأزمة وشكل ضغوطا على سيولة البنوك الأوروبية.
من جهة أخرى، فإن رؤوس أموال البنوك الأوروبية تعد منخفضة مقارنة بمثيلاتها في معظم دول العالم لدرجة أن بعض التقديرات تذهب إلى أن هذه البنوك ستحتاج إلى ما يقارب ترليوني يورو كزيادة في رؤوس أموالها خلال السنوات الخمس المقبلة، وذلك حتى تتلاءم أوضاعها مع القواعد الجديدة للجنة بازال (بازال 3). وقد اضطرت هذه البنوك في الأسبوع الماضي، على سبيل المثال، إلى اقتراض ما يقارب 575 بليون دولار من السوق لتغطية التزامات مستحقة مما شكل أزمة دولارية بالنسبة لهذه البنوك دفع البنوك الأوروبية (المركزي الأوروبي والبريطاني والسويسري) إضافة إلى بنك الاحتياط الفيدرالي الأمريكي والمركزي الياباني إلى اجتماع لحل هذه المشكلة. ولكي نأخذ فكرة عن حجم هذه المشكلة فإن أربعة من البنوك الفرنسية، على سبيل المثال، تحتفظ بما يصل إلى ستة بلايين يورو من السندات العائدة للحكومة اليونانية وما يزيد على 40 بليون يورو لحكومات الدول الأوروبية الأربع الأخرى التي خُفض تصنيفها الائتماني.
والأهم من ذلك أن عملية الإصلاح البنكي في معظم الدول الأوروبية لم يبدأ بعد تراشق عبر الأطلسي.
من الأمور اللافتة الردود الأوروبية السلبية المباشرة وغير المباشرة على الملاحظات التي أبداها وزير الخزانة الأمريكي في الأسبوع الماضي حول ضرورة قيام الحكومات الأوروبية المعنية بتبني حلول عملية وفعالة للمشكلة. لقد ذكرتني تلك الردود بعبارات التهكم التي أبداها بعض القادة الأوروبيين في السبعينيات عندما وصلت الفوائد على الدولار الأمريكي مستويات قياسية قاربت 17 في المائة، حيث ذكر المستشار الألماني في ذلك الوقت أن أية دولة تهمل عملتها إلى هذا الحد لا تحترم نفسها. لكن دون الدخول في التفاصيل دعونا ننظر إلى استخدام كل منهما لأهم عنصرين لحل الأزمة الاقتصادية وهما السياستان المالية والنقدية.
1- في السياسة المالية:
عندما تفجرت الأزمة في الولايات المتحدة بسبب الرهن العقاري وإفلاس بنك ليمان برذرز في عام 2009 أقرت الحكومة الأمريكية حزمة تحفيزية بمقدار 825 بليون دولار. وقد أدى ذلك إلى توفير أكثر من ثمانية ملايين وظيفة ومنع الاقتصاد الأمريكي من الانحدار إلى كساد كبير كالذي حدث في أوائل الثلاثينيات من القرن الماضي.
ولمّا لم يستأنف الاقتصاد الأمريكي نموه بمعدلات مقبولة بادرت الحكومة الأمريكية هذا العام (2011) باقتراح برنامج تحفيز جديد مقداره 447 بليون دولار يتوقع أن يخلق 1.9 مليون وظيفة جديدة وأن يضيف 2 في المائة إلى معدل النمو السنوي للاقتصاد الأمريكي.
أما في أوروبا، فإن أزمة الديون السيادية المصحوبة بأزمة بنكية (خصوصا في منطقة اليورو) تفجرت منذ أكثر من عام وما زالت تتفاعل، حيث تحمل الأخبار من حين للآخر تخفيض التصنيفات الائتمانية للدول حتى بلغ مجموعها خمس، منها دولتان رئيستان، إضافة إلى تخفيض تصنيفات العديد من البنوك الأوروبية الرئيسة وإفلاس بعضها. وبعد جهد جهيد توصل الأوروبيون بمساعدة صندوق النقد الدولي إلى إقرار إنشاء صندوق مؤقت بمبلغ 440 بليون يورو، وما زالت هناك بعض العوائق لبدء نشاطه بما في ذلك أن مبلغ 250 بليون يورو فقط من هذا الصندوق يمكن استخدامها مباشرة لدعم الحكومات المتضررة، إضافة إلى ذلك فإن هناك حكما قضائيا جديدا من المحكمة الألمانية يفسره المختصون بما يوحي بأن هذا الصندوق لا يمكن تجديده أو تمديد مدته.
2- في السياسة النقدية:
كان بنك الاحتياط الفيدرالي الأمريكي منخرطا في الأزمة منذ تفجرت، حيث قدم التسهيلات للبنوك وخفض أسعار الفائدة حتى وصلت إلى مستويات قريبة من الصفر، وأعلن أن هذا المستوى المنخفض سيستمر لمدة سنتين على الأقل. وطرح برنامجين كبيرين للتسهيل الكمي (الذي أعربه بالتدخل الكمي) وهناك دلائل قوية على أنه سيطرح برمجا ثالثا.
أما في أوروبا فإن البنك المركزي الأوروبي مشغول بمحاربة التضخم لدرجة أن سعر صرف اليورو وصل إلى مستويات قياسية، حيث قفز من 0.86 دولار لليورو الواحد عند طرحه عام 2000 حتى وصل إلى ما يقارب 1.5 دولار لليورو خلال العام الجاري؛ مما جعل المنتجات الأوروبية غير قادرة على المنافسة في التجارة العالمية وأدى إلى تفشي البطالة في القارة الأوروبية. كما أن الصراع ما زال محتدما في مجلس إدارة البنك المركزي الأوروبي حول مدى ملاءمة قيام البنك بشراء سندات الحكومات الأوروبية الداخلة في نظام اليورو لتوفير السيولة للبنوك لدرجة أن أحد أهم أعضاء المجلس قد استقال من منصبه احتجاجا على قيام البنك بهذه الخطوة.
إضافة إلى ذلك، فإنه بمجرد تفجر الأزمة في الولايات المتحدة دعت الحكومة الأمريكية مجموعة العشرين للاجتماع والالتزام ببرامج تحفيزية محددة، وتحويل هذه المجموعة لاحقا إلى ما يشبه مجلس لإدارة الاقتصاد العالمي. أما في أوروبا فإن حضور الوزير الأمريكي لاجتماع وزراء المالية الأوروبيين قبل أسبوعين قد قوبل بما قوبل به من تهجم، ولم يعقد أي اجتماع عالمي حقيقي للنظر في القضايا الآنية المتعلقة بالأزمة الأوروبية إلا اجتماع خمسة من محافظي الدول الغربية واليابان في الأسبوع الماضي لمعالجة شح الدولار لدى البنوك الأوروبية.
ما الحلول المقترحة لحل الأزمة؟
عندما انطلق اليورو في عام 2000 استبشر العالم بولادة عملة جديدة رديفة للدولار الأمريكي يمكن استخدامها في المبادلات الدولية والاحتياطيات بما يسهم في إضفاء المزيد من الاستقرار للنظام النقدي الدولي. وقام اليورو بهذا الدور وأسهم في المزيد من الترابط بين الدول الداخلة فيه. إلا أن المشكلة الرئيسة كانت وما زالت عدم التوافق بين السياسات والأوضاع المالية للأعضاء الداخلة فيه. وحيث إن هذا المشروع لا يحتمل الفشل فإن الدول الأعضاء مضطرة إلى توحيد سياساتها المالية.
ومن المقترحات بهذا الشأن إنشاء منصب لمفوض جديد مسؤول عن تقيد الدول الأعضاء بتنفيذ التزاماتها تجاه الحدود الموضوعة لعجز الميزانية والديون الحكومية...إلخ، وأن يكون لديه الحق برفض إقرار أية ميزانية لا تتلاءم مع هذه القواعد. كما أن لديه السلطة لطرد أية دولة لا تتقيد بتنفيذ التزاماتها المالية، إن هذه الخطوة تعتبر، لو تمت، قفزة نوعية أخرى في اندماج الاقتصاديات الأوروبية. إلا أن الصعوبات السياسة التي شهدناها أثناء مناقشة الصندوق المؤقت لتوفير الدعم المالي للدول المتضررة من الأزمة تجعلنا غير متفائلين بإقرار مثل هذه الخطوة في القريب العاجل.
ومن الحلول الأخرى المقترحة:
1- مقترح للرئيس الأوروبي بفرض ضرائب جديدة لمعالجة تبعات الأزمة الاقتصادية، إلا أنه ينبغي أن نأخذ في الاعتبار أن المواطنين الأوروبيين مثقلون بالضرائب؛ لذا سيقاوم المواطنون هذه الخطوة بشراسة.
2- قدم مقترح مشترك من المستشارة الألمانية والرئيس الفرنسي بفرض ضرائب على المبادلات المالية أسوة بضرائب البيع على السلع، وحتى تنجح هذه الخطوة لا بد من تطبيقها على الجميع، إلا أن هذا المقترح سيقاوم من قبل الحكومة البريطانية والولايات المتحده الأمريكية باعتبارهما أهم سوقين ماليتين، ومثل هذه الضرائب ستؤثر عليهما سلبا.
3- تدور حاليا مناقشات معمقة في الإتحاد الأوروبي وعلى الأخص مجموعة اليورو حول إمكانية إصدار سندات أوروبية تكون مسؤولية إصدارها والتزام تسديدها على عاتق جميع الحكومات الأوروبية. إلا أن ألمانيا ما زالت تقاوم بشدة هذا التوجه باعتبار أن المسؤولية الكبرى ستقع على عاتقها كأقوى اقتصاد أوروبي.
تبعات هذه الأزمة على الدول العربية وعلى الأخص دول مجلس التعاون
1- مقارنة بالبنوك الدولية بما في ذلك البنوك الأوروبية يبدو أن البنوك العربية وعلى الأخص تلك العاملة في منطقة مجلس التعاون في وضع أفضل من نظيراتها الأخرى من حيث مستويات رؤوس الأموال والسيولة ونوعية الأصول، إضافة إلى أن معظم دولنا تضمن الودائع. وعليه فإن الأموال التي قد تخرج من أية دولة عربية تخرج لأسباب لا تتعلق بملاءة البنوك.
2- إن الشكوك التي تثار بقوة حول الأوضاع المتردية لبعض البنوك الأوروبية تزيد من المخاطر التي تتعرض لها الودائع العربية في هذه البنوك.
3- كما أن تدهور أوضاع البنوك الأوروبية سينعكس سلبا على أسهمها؛ مما يسبب خسائر للمستثمرين العرب ويسحب بظلاله على أسواق الأسهم المحلية.
4- عدم استقرار أوضاع البنوك الأوروبية يقلل من مساهمتها في تمويل المشاريع في منطقتها وانخفاض الاستثمار الأوروبي في المنطقة العربية.
5- لقد أسهمت هذه الأزمة بانخفاض معدل النمو الاقتصادي في أوروبا؛ مما انعكس سلبا على الواردات الأوروبية من البترول والصادرات العربية الأخرى.
6- تمثل تجربة اليورو الرائدة سابقة تشجع على محاكاتها من قبل التجمعات التي تطمح للمزيد من الاتحاد الاقتصادي بين أعضائها مثل مجلس التعاون.
وأية هزة تتعرض لها هذه التجربة الرائدة ستجعل الآخرين يعيدون النظر بخططهم في هذا الشأن.