المحاسبة والاستدامة
منذ بدأت الثورة الصناعية والإنسان قلق على نفسه وموارده الطبيعية التي يعتمد عليها للعمل والبقاء على قيد الحياة. تجاوز الرأسماليون الحدود في استهلاك الإنسان وموارده حتى حد الإفقار، عندها تدخلت القوى الحكومية للصد، وتحملت لوحدها وعلى مدى قرون من الزمن تطوير البيئة وخدمة الإنسان.
لكن مع التطور المذهل في النشاط التجاري والصناعي، ومع النمو السكاني المتزايد الذي تزايدت معه معدلات الاستهلاك استنزفت الحياة والطبيعة واجتماعية الإنسان بل حتى إنسانيته، وبدلا من أن تعمل المؤسسات على بقائنا كبشر وازدهارنا كما وعدتنا، أصبحت معولا لهدمنا والفناء. ولما زاد الحمل على الحمال شكلت الأمم المتحدة هيئة تعرف بـBrundtland Commission وترأسها جروهارلم Gro Harlem Brundtland رئيس وزراء النرويج السابق، بهدف مراجعة وضع البيئة العالمية المتدهور، وما آلت إليه ظروف الإنسان المعيشية والصحية، والمصادر الطبيعية للحياة. وخلصت اللجنة بتقرير عنونته بمستقبلنا المشترك Our Common Future يؤكد ضرورة إيجاد أنظمة صحية وبيئية واجتماعية لاستمرارية التطور الاقتصادي.
منذ ذلك التاريخ تصاعد الحديث عن المسؤولية الاجتماعية والبيئية، ثم الاستدامة في فصلها الأخير. عندما تلزم المؤسسة بالعمل لما فيه مصلحة جميع الأطراف التي تتعامل معها أو من خلالها بما في ذلك المستثمرون، العملاء، الموظفون، الشركاء، التزاما يصل خيره إلى المجتمع، والبيئة عندها نقول بأن المؤسسة تعمل بطريقة مسؤولة اجتماعيا، وعندما يكون هذا الالتزام مستمرا يأخذ في اعتباره احتياجات الأجيال المقبلة فإننا نسميه عند ذلك استدامة، والتي تعني سلامة وقدرة النظام (أي المؤسسة وبيئتها) – اقتصاديا واجتماعيا وبيئيا - على الاستمرار على المدى الطويل الأجل لما فيه مصلحة البشرية وليس فئة منها".
أشارت الدراسات إلى أن تكلفة التهاون بمخاطر التغيرات المناخية ستصل إلى (20 في المائة) من الناتج العالمي (GDP) والذي بلغ 61 تريليون دولار في عام 2010، بينما تبلغ تكلفة الإجراءات التي يمكن القيام بها لتقليل الانبعاثات الحرارية في حدود (1 في المائة) سنويا، وقد أسمعت إذ ناديت حيا، فقدت بدأت الحياة تدب في أوصال الإفصاح عن الاستدامة للشركات. وتعود أول تلك الممارسات إلى أواخر الثمانينيات في الولايات المتحدة. ويعتبر قانون Right-to-Know هو أول تشريع يلزم الشركات العامة في الولايات المتحدة بالإفصاح عن المعلومات المتعلقة بالانبعاثات الكربونية لتدخل المحاسبة وبقوة ميدان المسؤولية الاجتماعية من بابها الأوسع. وكان أول تقرير عن الاستدامة للشركات لشركةBen & Jerry’s Ice Cream في عام 1989 الذي أكد على المسؤولية الاجتماعية فيما يتعلق بعمل الأطفال القصر في بعض المصانع، ثم تزايد الاهتمام بموضوع الاستدامة. وكما أشار الدكتور الزرعوني في بحثه في مجلة المحاسبة والمراجعة في الخليج، فقد تزايد عدد الجهات المفصحة من 100 في عام 1993 إلى أكثر من ألفين في عام 2009. وتعتبر أوروبا أكثر المناطق اهتمامًا بموضوع تقارير الاستدامة (54 في المائة)، تليها اليابان وأستراليا (25 في المائة)، ثم الولايات المتحدة (19 في المائة)، ثم جنوب إفريقيا والشرق الأوسط (2 في المائة). وتعبر هذه النسب عن الاهتمام والضغوط التي تمارسها الأطراف ذات العلاقة Stakeholders على الحكومات والجهات الرقابية والشركات في مجال المسؤولية الاجتماعية. كما تم إصدار مؤشرات للاستدامة مثل SRI في بورصة جوها نسبرج، ومؤشر داو جونز للاستدامة DJSI لقياس أداء الشركات في المجالات الاجتماعية والبيئية. وأيضا استخدام وكالات التصنيف لتقارير المسؤولية الاجتماعية في عمليات التصنيف كما هو الحال في ستاندارد آند بورز.
لكن لم يزل الطريق طويلا وصعبا نحو إفصاح جيد عن محاسبة المسؤولية للاعتبارات البيئية والاجتماعية. وهناك أسئلة لم تزل بلا إجابات:
كيف نعرف حجم الاحتياجات الحالية ونفصلها بدقة عن المستقبلية؟ ثم كيف نقيسها بدقة وموضوعية في ظل مشاكل كبيرة مثل تذبذب العملة والتضخم والقياس القائم على مفاهيم القيمة الحالية والعادلة مع مشاكل قياس محاسبية يعلمها الراسخون في علم المحاسبة جيدا؟ ماذا يخصنا؟ وماذا يحق للأجيال القادمة من الموارد الطبيعية وخاصة تلك التي تنضب؟ بل ما هو ما هو الحد الزمني الفاصل بيننا كجيل حالي والأجيال المستقبلية، والأجيال المستقبلية إذا أتت مع من بعدها؟
كيف يمكن الربط بين مفاهيم الاستدامة والمسؤولية الاجتماعية والبيئة التي تقوم على حق المجتمع والمفاهيم المحاسبية والإفصاح وتقييم الأداء التي تقوم على فكرة حق تعظيم وتنمية الثروة لأصحاب الأعمال والمستثمرين؟ فنحن نقيم نجاح الأعمال وفقا لمفهوم الثروة الخاصة وتعظيمها، ونقيم الأداء وفقا لمفهوم الاستخدام الفعال والكفء للموارد. وهذه المفاهيم شكلت علم المحاسبة من معاييره إلى تقاريره وإفصاحاته ولم تنشأ لتعكس حق المجتمع.
كاتب اقتصادي