الربيع العربي والسياسة الروسية في الشرق الأوسط
لم تهتم وسائل الإعلام كثيرا بموقف روسيا من الشرق الأوسط وهو يمر بهذه المرحلة من التقلبات والاضطرابات والثورات، ربما لأن سحابة كثيفة من التعمية والتمويه الأمريكي شاءت إبعاد الروس، وربما لأن الروس ـ ظاهريا ـ في حالة غضب مما يحدث.
وفيما يمكن اعتباره نقطة تحول في السياسة الروسية إزاء الشرق الأوسط، برزت تصريحات وبيانات متواكبة ومتلاحقة في وسائل الإعلام وفي مناسبات متفرقة، أدلى بها مسؤولون روس، منهم خبراء في الشرق الأوسط وساسة لهم باع في شؤون المنطقة، بل الرئيس الروسي ميدفيديف نفسه. تناولت هذه البيانات انتقادات للعملية الثورية التي اجتاحت دولا كثيرا في الشرق الأوسط، ووصفها هؤلاء بأنها ظاهرة سلبية ومشحونة بالمخاطر التي ستؤثر في الاستقرار محليا وعالميا. وحسبما قال هؤلاء المسؤولون الروس فإن ما سمته أمريكا الربيع العربي تسميه روسيا مقدمة الصيف الإسلامي الذي تحولت إليه الأمور، ما يمهد لصعود قوى المعسكر الإسلامي بتنوعاته المختلفة من أصولي إلى سلفي إلى صوفي إلى إخوان مسلمين إلى جماعات إسلامية والجهاد، وهذا الصعود لن يرضى بغير الحكم، وبصورة لم يعد بالإمكان إيقافها.
هذا ما يقوله الروس، ويضيفون أن من قام بهذه الثورات كان الشباب من الأجيال الجديدة التي عرفت التعامل مع الإنترنت والفيسبوك والتويتر بتشجيع أمريكي واضح من البداية، حيث رأت الولايات المتحدة في مظاهر الحالة السوسيواقتصادية (أي الاجتماعية والاقتصادية) وحالة المطالبة بالحرية تربة موائمة لتشجيع الشباب، وإذا بها ـ كما يقول الروس ـ تكتشف أن العناصر الشابة ليس لديها القوة للحفاظ على زخم واستمرارية هذه الثورات. ما يعني أن أعنة القيادة ستبقى في أيدي كوادر لها خبرات استقتها وحصلت عليها من السلطات السابقة، وأكثر هؤلاء حظا من عارض الحكومات السابقة أو اشتهر بالتنديد بها، ومن ثم فإن هؤلاء مؤهلون للاستفادة من الموقف، على رأس أولئك جميعا القوى الإسلامية التي وقفت دائما في صف غير المرغوب فيهم سواء في تونس أو مصر أو سورية أو ليبيا أو اليمن، وهذا يعني أن فرصة تولي السلطة مطروحة أمام الإسلاميين، ما يعني في سياق التفسير الروسي والتعبير الصريح عنه، أن الديمقراطية ستظل في المنطقة كلمة جوفاء ولن يرى الشرق الأوسط أية ديمقراطية لأن الكلمة ستظل قابعة في إطار شعارات انتخابية أو تصريحات كلامية، والسبب أن السمة الرئيسة لمجتمعات الشرق الأوسط أنها مجتمعات قديمة وتقليدية. ومن هنا فإن الأنظمة الحاكمة في تقدير معظم الروس ستبقى معادية للديمقراطية وإسلامية بصفة أساسية، ومن ثم فهي تحمل لشعوب هذه المنطقة الأسى والحزن الذي سيولد حالة من الحزن لدى الشعوب ويجعلها تتوق للأيام الماضية بكل ما فيها من فساد واستبداد لأنها حققت الاستقرار ووضعت الإسلاميين على هامش الحياة السياسية. واستطرد خبراء الشرق الأوسط الروس ليقدموا التوقعات التي لن تخرج في أحسن الحالات عن النموذج التركي، وفي أسوأ الحالات عن النموذج الإيراني.
يقول معظم هؤلاء الخبراء إن هذه الحقائق لها نتائج قاسية على النطاقين الإقليمي والعالمي، فالتغيرات التي شهدتها تركيا ستلعب دورا سلبيا لأن تركيا ـ كما يقول الروس ـ تعمل بجد واهتمام لاستعادة الإمبراطورية العثمانية التي امتدت من آسيا إلى إفريقيا إلى أوروبا في القوقاز والبلقان، أما البرنامج النووي الإيراني الذي لن يمكن إيقافه سيتحقق في غضون عامين أو ثلاثة، إذ يبدو أن الولايات المتحدة اقتنعت بمنطق عدم خطورة البرنامج الإيراني وأنه سيكون مستأنسا كالهندي والباكستاني المجاورين لإيران.
وهذا يعني أن التطور التركي بكل طموحاته والنجاح الإيراني نوويا بكل أبعاده سيؤديان إلى كوارث عالمية ضد النظام العالمي الحالي الذي يهيمن فيه الغرب على العالم. وذلك لأن مزيدا من دول المنطقة ستعمل للحصول على القنبلة النووية، ما يعني انهيار كل اتفاقيات الحد من الأسلحة النووية في العالم كله. وهذا تطور يحمل في ثناياه أبعادا كارثية. وفي هذه الحالة يصر الروس على أن المسلمين الذين سيتولون السلطة في بلاد جديدة لن يشاركوا في أي حوار حول سلامة المجتمع الدولي، لكنهم سيناضلون من أجل تحقيق طموحاتهم السياسية. وواضح من هذا الرأي وذاك التخوف أن الروس يعاون التجربة الشيشانية والأنجوشية وتوقعاتهم بانضمام جمهوريات إسلامية إلى منظومة عداء الروس.
إذا حدث هذا التطور يقول الروس إن النظام العالمي سيبدو عقيما ضعيفا، بل عاجزا تماما. والمنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة وحلف شمال الأطلنطي أثبتت عجزها عن مواجهة المخاطر ومن ثم لم تعد كيانات مهمة، أما الولايات المتحدة فيعتقد الروس أنها فقدت نفوذها في الشرق الأوسط، بل في العالم أجمع. أما أوروبا فتتراجع تحت وطأة الضربات الإسلامية، آجلا أو عاجلا سيتمكن المسلمون من هزيمة أوروبا من داخلها، ومع تدهور وانهيار الغرب في الشرق الأوسط وفي العالم سيصعد نجم الإسلام ويسود الغرب.
ولا شك أن هذه الآراء والتحليلات الروسية بدت عجيبة أمام العالم، والسبب أن روسيا حتى فترة وجيزة كانت صديقا ومدافعا عن دول عديدة في الشرق الأوسط ومعظمها دول إسلامية، بل دعمت العديد من المنظمات الأصولية ومنها ما هو قائم في دول محور الشرق كما وصفتها الولايات المتحدة، وطالما وقفت روسيا حليفة لمعظم الأنظمة التي انهارت، بل حاولت الحفاظ على هذه الأنظمة، وأشهر مثال على ذلك جهودها لتعويق جهود الولايات المتحدة في تدمير القذافي وصنعت الشيء نفسه في سورية، كما ينبغي ألا ننسى أنه رغم هذه التحذيرات فإن روسيا تتمتع بعلاقات متميزة مع تركيا ولها علاقات خاصة بإيران، وعلاقات دافئة بالفلسطينيين تتجسد في دعمهم الدائم في الأمم المتحدة ولا نغفل دعمها لحماس.
والطريف أن روسيا التي فجرت كل هذه المواقف الجديدة عملت الكثير من أجل توثيق عرى التعاون مع الأنظمة الجديدة وعناصر المعارضة وذلك لضمان علاقات قوية مع هذه القوى عندما تصعد إلى سدة الحكم، وخير مثال على ذلك أن روسيا تؤيد الرئيس بشار الأسد وفي الوقت نفسه لم يمنعها ذلك من استضافة وفود تمثل الثائرين عليه.
ويرى الخبراء الغربيون أن تأويل ما يقوله الروس سينطوي على أحد احتمالين: الأول أن هناك إجماعا روسيا اختمر في الأفكار التي أوردناها على لسانهم.
الآخر أن هذه الآراء تخص معسكرا أو جماعة أو جماعات، لكنها لا تمثل رأي روسيا الإجماعي والنهائي، لأن السياسة الروسية إزاء الشرق لم تكن موطن إجماع حتى منذ عصر الاتحاد السوفياتي، وللتدليل على هذا الرأي تذكر الصحف الأمريكية الخلاف الحاد بين رئيس الجمهورية ميديفيديف ورئيس الوزراء بوتين حول ليبيا وبالتحديد العقوبات التي اقترحتها الولايات المتحدة، إذ وافق عليها الأول واعترض عليها الثاني.
الموقف الذي خلص إليه فريق من المحللين أن روسيا تشعر بتباشير الخطر على مصالحها وتفكر في الأضرار التي ستعود عليها عندما تأتي حكومات غير مدينة لموسكو بالخضوع، ومن ناحية أخرى، يعكس الموقف الروسي رغبة في العودة إلى مكانة القوى العظمى التي تبدي انزعاجها لبروز قوى أخرى، ومن ثم فهي تعلن للقوة الأخرى استعدادها للتعاون معها في احتواء أي خطر جديد يهددهما، وبهذا تعود روسيا لمكانة الاتحاد السوفياتي القديمة.
وثمة وجهة نظر ثالثة تقول إن روسيا تريد إيجاد فرق تعتمد عليها في المنطقة، ولن يتم ذلك إلا بإطلاق صواريخ التخويف والتقليل من شأن الغرب، الذي تتهمه موسكو بالفشل في التعامل مع العرب والمسلمين، لذلك فقد حان الوقت – من وجهة نظر روسيا – أن تأتي قوة أخرى لتدير المنطقة حتى لا تقع في أيدي المسلمين الذين يهددون العالم ـ على حد تعبير روسيا.