.. ورسوم الأراضي البيضاء تنتظر قراراً تاريخياً أيضا

المفاجأة التي أطلقها خادم الحرمين الشريفين في كلمته السنوية في مجلس الشورى في الأسبوع الماضي بإعلان مشاركة المرأة في المجلس وانتخابات المجالس البلدية كانت مفاجأة من العيار الثقيل، حسمت الجدل الدائر حول توجه وقناعة الدولة بحتمية تفعيل دور المرأة في مسيرة التنمية، وقدمت معالجة جذرية وفاعلة وعاجلة لهذه القضية، لتكون هذه المعالجة مؤشرا على اهتمام الدولة بهذه القضية، وعنصر اطمئنان تجاه إمكانية صدور مبادرات أخرى في الاتجاه ذاته. كنت دوما أقف من هذه المبادرات الملكية الكريمة موقف المتحفظ المتعجب، ليس اعتراضا على مضامين هذه المبادرات التي تؤكد حرص الملك القائد على تسريع خطى الإصلاح، ولكن لأنها تأتي معبرة عن قصور آليات التشريع في المملكة، والبطء الملحوظ في التعاطي مع المشاكل والقضايا التي تقف حجر عثرة في طريق مسيرة التنمية الوطنية. وإلى أن يأتي اليوم الذي نرى فيه تصحيحا وتطويرا لهذه الآليات بما يفعل دورها في معالجة هذه المشاكل، سيظل الوطن وأبناؤه متطلعين بين الفينة والفينة لمثل هذا التدخل الملكي الكريم لتقديم حلول طارئة وعاجلة لهذه المشاكل والعقبات. وأنا هنا أرفع هذا المطلب إلى المقام الملكي الكريم مستجديا كريم تدخله العاجل لحسم الجدل الدائر حول قضية مصيرية شكلت عقبة كأداء في سبيل مسيرة التنمية الوطنية، ومعالجة أزمة الإسكان التي أصبحت مستعصية على الحل، حتى مع كل تلك القرارات الملكية السخية بدعم ميزانية وزارة الإسكان وصندوق التنمية العقاري، ألا وهي قضية أسعار الأراضي.
لقد أصبحت مشكلة ارتفاع أسعار الأراضي في المملكة هما يؤرق كل مواطن من أبناء هذا الوطن الغالي، وباتت عقبة كأداء في سبيل تحقيق حلم تملك المسكن الذي يشغل بال النسبة العظمى من المواطنين الذين لم يتح لهم بعد تحقيق هذا الحلم، والذين تؤكد الأرقام أن نسبتهم تبلغ 70 في المائة من أبناء الوطن. إن الوطن وأبناءه يقدرون بكل الحب والتقدير تلك القرارات الملكية الكريمة التي تم الإعلان عنها بالتزامن مع عودة قائد البلاد سالما معافى من رحلته العلاجية، والتي منحت وزارة الإسكان وصندوق التنمية العقاري زخما ودعما ماديا هائلين لتمكينهما من أداء دورهما المأمول في معالجة قضية توفير المساكن للمواطنين. ولكن هذه الجهود وهذه المبادرات السخية اصطدمت بجدار مشكلة كبرى عطلت تحقيق هذا الحلم ووضعت القائمين على هذه الأجهزة أمام تحد خطير، ألا وهي مشكلة توافر الأراضي وارتفاع أسعارها. لب المشكلة أن مساحات شاسعة من الأراضي البيضاء داخل المدن مملوكة لأفراد ومؤسسات عامة وخاصة، وهي أراض مجمدة معطلة عن الانخراط في عملية التطوير والبناء، في الوقت الذي بذلت الدولة ولا زالت تبذل جهودا كبيرا وحثيثة لمدها بالخدمات وتزويدها بالمرافق الأساسية، وتكبدت في سبيل ذلك كثيرا من موارد الخزانة العامة. ونتيجة لذلك، فإن وزارة الإسكان التي تسعى لتنفيذ الأمر الملكي الكريم ببناء 500 ألف وحدة سكنية لم تجد أمامها سبيلا للحصول على الأراضي اللازمة لبناء هذه الوحدات السكنية سوى اللجوء إلى وزارة الشؤون البلدية والقروية للحصول على الأراضي اللازمة لهذا الغرض، والتي بدورها لم تتمكن إلا من تخصيص أراض هي في معظمها أراض غير قابلة للتطوير كونها بعيدة عن النطاقات العمرانية للمدن. ونتيجة لهذا الواقع المخل، أصبحت الأراضي المخدومة الواقعة داخل المدن، والتي تمثل الأداة الأنجع لتحقيق مضامين الأوامر الملكية الكريمة، معطلة عن الإسهام الحقيقي الفعال في معالجة هذه الأزمة، وباتت أداة للمضاربة والاحتكار والتربح حتى بلغت أسعارها عنان السماء، واستعصت على أية محاولة من وزارة الإسكان أو شركات التطوير العقاري أو حتى المواطنين الأفراد لشرائها وإدخالها في دورة التطوير والإنتاج للوحدات السكنية. إن السبب الحقيقي وراء هذه الظاهرة هو غياب التشريعات والأنظمة التي تمنع وتجرم مثل هذه الممارسات الاحتكارية، وتحرم ملاك هذه الأراضي من المنافع الناشئة عن تجميدها واكتنازها والحيلولة دون توظيفها في معالجة أزمة الإسكان وبقية مشاكل التنمية العمرانية. ويعلم الجميع أن مجلس الشورى الموقر كان قد أصدر قبل حوالي أربعة أشهر قراره القاضي بمطالبة وزارة الشؤون البلدية والقروية بوضع ضوابط لفرض رسوم على الأراضي البيضاء المملوكة داخل المدن، وهو قرار جاء معبرا عن قناعة المجلس بحتمية هذه الخطوة، واستجابة لمطالب أبناء الوطن من كتاب ومفكرين، وتطلعات الأفراد والأسر الذين يحلمون بمساكن تؤويهم في وطنهم الغالي. ومع كل الأهمية التي يحملها هذا المطلب، إلا أن دور الجهات المسؤولة ما زال قاصرا عن التعاطي الجاد معه، وما زال قرار مجلس الشورى المذكور حبيس الأدراج والملفات إلى جانب القرارات الأخرى السابقة المتعلقة بمنظومة الرهن والتمويل العقاري. وفي النتيجة، فإن قضية الإسكان وتحقيق حلم توفير المساكن لأبناء الوطن ما زالت مستعصية على الحل، وما زالت القرارات الملكية السابقة معطلة عن التنفيذ والتفعيل في ظل تعذر توفير العنصر الأهم في هذه المعادلة وهو الأراضي القابلة للبناء.
أمام هذا الواقع المرير، فإن الوطن وأبناءه يتطلعون إلى تدخل كريم من مقام خادم الحرمين الشريفين لمعالجة هذه المشكلة العسيرة التي وقفت حائلا دون تنفيذ الأوامر الملكية الكريمة وتطلعات الجميع برخاء أبناء الوطن وراحتهم. إن القضايا المصيرية التي تمس أمن المواطن وراحته وتقف حجر عثرة في طريق مسيرة التنمية الوطنية تتطلب تدخلا حاسما يزيل هذه العقبات ويعالج هذه المشاكل، حتى يرى الوطن وأبناؤه نجاحا حقيقيا على أرض الواقع للجهود الحثيثة والاستثمارات الضخمة التي تضخها الدولة في سبيل تحقيق هذا الهدف. إن معالجة مثل هذه القضايا يتعرض في كثير من الأحيان لتعارضات واضحة في المصالح، ولخلل في فهم الآثار السلبية الناجمة عنها أحيانا أخرى، وهو ما يجعلها تسقط من قائمة الأولويات في أجندة الجهات المسؤولة، ويسهم في مفاقمة الواقع الأليم الذي يعاني منه أبناء الوطن. ولأن التاريخ قد أثبت بما لا تصح معه أية مواربة حرص خادم الحرمين الشريفين على رخاء الوطن وراحة أبنائه، وتحقيق تطلعات الجميع في إنجاح مسيرة التنمية الوطنية، وهو ما تدل عليه مبادراته الكريمة العديدة التي كان آخرها قراراته القاضية بتفعيل دور المرأة في المجتمع، وإشراكها في تشكيل مجلس الشورى والمجالس البلدية، فإنني وبقية أبناء الوطن الغالي نرفع إلى المقام الكريم رجاءنا بتدخل عاجل وحاسم لإصدار التوجيهات الكريمة بفرض رسوم على الأراضي البيضاء داخل المدن، ووضع التشريعات التي تنظم وتقنن تداول الأراضي، بما يحقق التطلعات الوطنية بالسيطرة على مشكلة ارتفاع أسعار الأراضي ومعالجتها، ومنع الممارسات الاحتكارية والمضاربية فيها، وتسهيل إدخالها في دورة التطوير والبناء وإنتاج الوحدات السكنية. إن الوطن وأبناءه يتطلعون بعين الأمل والرجاء إلى استجابة ملكية كريمة لهذا المطلب، واثقين من حرصه حفظه الله على تحقيق أحلامهم وتطلعاتهم إلى أن يكون لكل منهم وطن في وطنه، وسعيه الحثيث لتحقيق كل ما فيه الخير لهذا الوطن وأهله.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي