في ظل تنامي الاستهلاك المفرط للنفط محليا ما السبيل لإيقاف هذا النزيف؟ (2)
في الجزء الأول من هذه المقالة المنشور في عدد "الاقتصادية" 6524 تم تناول ظاهرة الاستهلاك المحلي المفرط للنفط التي نتج عنها تحقيق المملكة قفزة كبيرة في ترتيبها ضمن أكبر الدول على مستوى العالم في مستوى الاستهلاك المحلي، متقدمة من المرتبة الرابعة عشرة إلى السادسة خلال العقد الماضي.
وتضمن المقال تقديم قراءة تحليلية للبيانات التاريخية للاستهلاك المحلي للنفط في المملكة مع التطرق إلى أثر الدعم على ارتفاع معدلات الاستهلاك مقارنة بالدول النفطية المجاورة.
وسيتم في هذا الجزء التركيز على سيناريوهات نمو الاستهلاك المحلي مستقبلا وتداعيات ذلك داخليا وخارجيا، مع تقديم رؤية لما يجب عمله لتفادي التداعيات السلبية المتوقعة لهذه الظاهرة على الاقتصاد الوطني من جهة وعلى التزامات المملكة كمورد رئيسي وموثوق للنفط للأسواق العالمية فيما لو استمرت معدلات نمو الاستهلاك المحلي على مستوياتها الحالية.
الاستهلاك المحلي للنفط .. سيناريو النمو المستقبلي!
بلغ معدل النمو السنوي المركب للاستهلاك المحلي للنفط خلال العقد الماضي 6.0 في المائة، حيث ارتفع إجمالي الاستهلاك المحلي من نحو 1.6 مليون برميل يوميا في عام 2000 تمثل 16.6 في المائة من إجمالي الإنتاج إلى 2.8 مليون برميل يوميا تشكل 28 في المائة من حجم الإنتاج بنهاية عام 2010.
وبناء على بيانات الاستهلاك المحلي التاريخية يمكن رسم سيناريو لمستويات الاستهلاك مستقبلا مع الإقرار بأن التنبؤ بحجم الاستهلاك المحلي للنفط مستقبلا أمر لا يمكن تحديده بدقة كونه يخضع لعدد كبير من المتغيرات، لكن مع ذلك يبقى من الممكن رسم سيناريو لنمو الاستهلاك المحلي مستقبلا مبني على الافتراضات التالية:
1. استمرار النمو في الاستهلاك المحلي خلال العقدين المقبلين حتى عام 2030 بنفس معدلات نموه خلال العقد الماضي.
2. ارتفاع معدل إنتاج النفط إلى 12.0 مليون برميل يوميا، إما من خلال استغلال الجزء الأعظم من الطاقة الإنتاجية الحالية البالغة 12.5 مليون برميل يوميا أو من خلال رفع الطاقة الإنتاجية بحلول عام 2030 إلى 14.5 مليون برميل مع إبقاء 2.5 برميل كطاقة احتياطية غير مستغلة (أغلبها من النفط العربي الثقيل) مثلما هو الحال في الوقت الحاضر.
جدير بالإشارة هنا إلى أن مستوى الإنتاج المستهدف أو المفترض يرتبط بحالة الأسواق العالمية ونظام الحصص في الأوبك إضافة إلى توفر الاستثمارات اللازمة لرفع الطاقة الإنتاجية إلى المستوى المستهدف.
#2#
ووفقا لهذا السيناريو سيصل حجم الاستهلاك المحلي للنفط في عام 2030 إلى نحو 8.55 مليون برميل يوميا حسبما موضح في الشكل (2) وسترتفع في حينها حصة الاستهلاك المحلي للنفط في المملكة من 28 في المائة من مستوى الإنتاج الحالي إلى 71 في المائة من إجمالي الإنتاج في عام 2030! وحصول هذا السيناريو يعني أن كميات أكبر من النفط المنتج سيتم تحويلها تدريجيا للاستهلاك المحلي على حساب الصادرات النفطية التي قد تنكمش بحلول عام 2030 إلى نحو 3.45 مليون برميل يوميا تمثل نحو نصف مستوى صادرات المملكة النفطية في عام 2010 التي كانت بحدود 7.0 مليون برميل يوميا. وسيترتب على هذا الأمر تراجع الإيرادات النفطية في عام 2030 بنسبة 50 في المائة عن مستوياتها في العام الماضي ـ على افتراض حفاظ أسعار النفط وحجم الإنتاج على مستوياتها الحالية ـ وهذا المستوى من الإيرادات يقل عما تنفقه الدولة في الوقت الحاضر على قطاعات الصحة والتعليم والبنية التحتية والدعم المقدم للخدمات والسلع الأساسية!
التداعيات المحتملة..
تداعيات الزيادة الضخمة والمطردة في حجم الاستهلاك المحلي للنفط قد تكون غير محسوسة في الوقت الحاضر أو حتى على المدى القصير بسبب الأسعار الجيدة للنفط وكون القسم الأكبر من الإنتاج لا يزال متاحا للتصدير، لكنها على المدى البعيد قد تكون كارثية إذا ما استمرت معدلات الاستهلاك المحلي في النمو بنفس النسب الحالية مع ما ينتج عن ذلك من تراجع في الكميات المتاحة للتصدير من النفط. وإمكانية حصول السيناريو المشار إليه أعلاه ستكون له تداعيات عدة لعل أهمها:
أولا: تراجع العائدات النفطية للمملكة
تاريخيا شكلت التدفقات المالية للإيرادات النفطية حصة الأسد من الإيرادات الحكومية حيث بلغ حجمها خلال الفترة 1970- 2009 نحو 7.6 تريليون ريال مثلت نحو 83 في المائة من إجمالي الإيرادات الحكومية البالغة 9.2 تريليون ريال. ومكنت تلك التدفقات الحكومة من الإنفاق السخي - بشقيه الاستثماري والجاري - الذي بلغ إجماليه خلال تلك الفترة نحو 8.4 تريليون ريال. وفي ظل أسعار النفط السائدة ارتفعت الإيرادات النفطية لتشكل نحو 86 في المائة من الإيرادات الحكومية البالغة 505 مليارات ريال في عام 2009. ونتيجة لذلك حافظ معدل نمو الإنفاق الحكومي السنوي خلال السنوات الأخيرة على مستوى جيد يزيد على 7 في المائة، وهو معدل مرشح للاستمرار خلال السنوات القليلة القادمة في ظل مستويات الأسعار الجيدة للنفط وتحقيق الميزانية العامة للمملكة فوائض جيدة، الأمر الذي يرجح بدوره زيادة الاعتماد على إيرادات النفط كمصدر رئيس للدخل لتغطية كافة الالتزامات الحكومية المتزايدة.
وفي حين يقدر السعر الذي تتعادل عنده الموازنة العامة للدولة في الوقت الحاضر عند مستوى 65 دولارا للبرميل عند مستويات الإنتاج والأسعار الحالية فإن انكماش الصادرات النفطية بفعل النمو المطرد في الاستهلاك المحلي سيؤدي ليس فقط إلى تآكل الفوائض المالية التي تدعم الإنفاق الحكومي السخي في الوقت الحاضر بل إلى حصول عجوزات مزمنة في الموازنة العامة مستقبلا، وهو أمر وارد جدا فيما لو تراجع حجم الصادرات النفطية بنسبة 50 في المائة في عام 2030 عن مستوياته الحالية ما لم يصل سعر البرميل في حينها إلى أكثر من 250 دولارا، وهو سعر مستبعد لما له من انعكاسات سلبية على الاقتصاد العالمي وعلى الطلب على النفط في ظل وجود البدائل التي ستصبح اقتصادياتها حينها أكثر تنافسية من النفط ما سيضغط على أسعاره. إضافة إلى ذلك فإن فاتورة الخسائر ستتضاعف مرات عدة فيما لو أخذ في الاعتبار تلك المترتبة على ضياع الفرص من بيع النفط محليا بأسعار بخسة تبلغ على سبيل المثال ثلاثة دولارات لمحطات توليد الكهرباء وهو سعر يشكل أقل من 3 في المائة من الأسعار العالمية!
ثانيا: ضمان الإمدادات النفطية للأسواق العالمية
أحد محاور سياسة المملكة النفطية يتمثل في سعيها لتحقيق توازن بين العرض والطلب في أسواق النفط العالمية والمحافظة على مستوى أسعار معتدل بقدر الإمكان. ويتطلب ذلك القدرة على تأمين إمدادات كافية للأسواق. ومن هذا المنطلق تلعب المملكة دور "المنتج المرجح" ضمن منظومة أوبك ومارست هذا الدور تاريخيا لضمان إمدادات النفط إلى الأسواق العالمية من جهة وللمحافظة على مستويات أسعار عادلة للنفط خلال فترات تذبذب الإمدادات والأسعار في أسواق النفط في سبعينيات وثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي عندما حصل انقطاع متكرر للإمدادات النفطية من بعض دول المنطقة المنتجة للنفط وأدى بالتالي إلى ارتفاع الأسعار بصورة ملحوظة، وتجسد هذا الدور مؤخرا في زيادة الإنتاج لتعويض الإمدادات الليبية وتزويد الأسواق العالمية بما يمكن من النفوط المشابهة في النوعية للنفط الليبي الخفيف.
ووفقا لذلك تذبذبت حصة المملكة من إجمالي الإنتاج العالمي فكانت في أعلى مستوياتها في عام 1980 للتعويض عن النفط الإيراني وبنسبة وصلت إلى 16 في المائة من إجمالي الإنتاج العالمي تراجعت لاحقا إلى 6 في المائة عام 1985 عندما أقدمت المملكة على خفض إنتاجها إلى نحو مليوني برميل يوميا. وفي المتوسط أمدت المملكة أسواق النفط العالمية بإمدادات بلغت 10 في المائة من إجمالي الإنتاج العالمي خلال العقود الخمسة الماضية، ارتفعت في العقد الماضي لتبلغ نحو 12 في المائة من إجمالي الطلب العالمي على النفط.
مستقبلا، من المرجح أن تظل المملكة تسهم بحصة مؤثرة في إنتاج النفط مع توقع بلوغ حجم إنتاج المملكة نحو 12 مليون برميل يوميا بحلول عام 2030 لكن حصتها في الأسواق العالمية قد تتراوح بين الاستقرار عند مستوياتها الحالية والتراجع التدريجي الذي يبقى مداه مرهونا بقدرة المملكة على كبح جماح الاستهلاك المحلي المفرط للنفط والذي قد ينتج عنه تحول المملكة من مورد رئيسي للأسواق العالمية إلى مورد هامشي، الأمر الذي بدوره سيحد من قدرة المملكة على تحقيق الاستقرار في السوق العالمية.
الخيارات المتاحة..
بافتراض حصول هذا السيناريو يصبح حجم الاستهلاك الإضافي المتوقع من النفط بحلول عام 2030 نحو 5.7 مليون برميل من النفط يوميا تضاف إلى مستوى الاستهلاك الحالي البالغ 2.81 مليون برميل يوميا. وهذه الكمية الإضافية في الاستهلاك يمكن تقليصها بنسبة تزيد على النصف بتبني عدد من الخيارات:
1. تحسين كفاءة توليد وتوزيع الكهرباء من خلال تقليل الفاقد في شبكات توزيع الكهرباء، وتطوير محطات التحلية المنتجة للمياه المحلاة بما يجعلها محطات إنتاج مزدوج (مياه وكهرباء)، وتحويل محطات التحلية الحالية للعمل بتقنية التناضح العكسي.
2. ضبط الاستهلاك في القطاعات التجارية والصناعية للوصول إلى مستوى كفء في استهلاك الطاقة وإلزام المستهلكين باستخدام تقنيات خفض حجم الاستهلاك. وإطلاق مبادرات لتحسين كفاءة الطلب والاستهلاك في القطاع التجاري والسكني لرفع كفاءة الاستهلاك تشمل استخدام الإضاءة الكفؤة والاقتصادية وأنظمة العزل في المباني التجارية والمنزلية، وبلورة مواصفات ومقاييس تلزم الموردين باستيراد أجهزة ذات كفاءة استهلاك أفضل.
3. مبادرات لتحسين كفاءة النقل تشمل تحسين كفاءة استهلاك الوقود في وسائل النقل بأنواعها وتقديم حوافز لتفضيل شراء السيارات الاقتصادية في استهلاك الوقود، إضافة إلى تطوير شبكة النقل العام في داخل المدن الرئيسية.
4. إعادة تقويم آليات التسعير لمصادر الطاقة ومستويات الدعم وتخصيص الدعم بدلا من تعميمه وبلورة سياسات خاصة بتسعير الطاقة في السوق المحلية تعكس تكاليف الإنتاج على الأقل.
5. التوسع في استخدام الغاز الطبيعي لتوليد الكهرباء وتحلية المياه، حتى لو تطلب الأمر استيراده من دول خليجية مجاورة، وهو أمر تكتنفه صعوبات عدة في مقدمتها اقتصاديات مثل هذه المشاريع في ظل آليات تسعير الغاز في المملكة الذي يعد الأرخص خليجيا. وهذا الخيار قد لا يمثل حاجة ملحة مستقبلا في ظل إعلان شركة أرامكو السعودية بدء إنتاج الغاز من حقل كران البحري وتوجهها نحو تطوير عدد من حقول الغاز البحرية والبرية.
6. تنويع مصادر الطاقة باستخدام الطاقة المتجددة لتوليد الكهرباء وتوفير الدعم والضمانات الحكومية التي تحسن اقتصاديات هذه المشاريع وتجعلها جاذبة للمستثمرين.
7. تبني حزمة من الإجراءات لرفع مستوى "ثقافة ترشيد الاستهلاك" وإطلاق حملات توعية دائمة للمستهلكين تختلف عن سابقاتها التي تميزت بارتفاع صوتها عند إطلاقها ثم تلاشيها بعد فترة وجيزة.
جدير بالإشارة أن معظم المبادرات المشار إليها آنفا تحتاج إلى وقت طويل نسبيا حتى تؤتي ثمارها، وهذا ما يستدعي العمل وبسرعة على إيجاد حلول استباقية مناسبة للتحديات التي يواجهها قطاع الطاقة الاستراتيجي في المملكة، وصولا إلى تحقيق توازن بين الطلب المحلي المتزايد على الطاقة وتطوير آليات الضبط والترشيد في استهلاكها محليا. وهذا الأمر يتطلب بلورة سياسة متكاملة للطاقة في المملكة توازن بين احتياجات كل الأطراف تتمثل أهدافها الرئيسية في:
1. الاستغلال الأمثل والمتوازن لإنتاج واستهلاك النفط والغاز بما يضمن إطالة عمر الثروة الهيدركربونية الناضبة.
2. تحقيق قيمة مضافة أعلى لموارد الطاقة الناضبة تمكن الدولة من الحصول على أفضل العوائد الاقتصادية للمجتمع من خلال توظيف تلك الموارد في توطين الصناعات والخدمات المرتبطة بقطاع الطاقة التي تخلق فرص عمل مجدية لشباب وشابات المملكة.
3. ضمان إمدادات المستهلكين المحليين باحتياجاتهم من الطاقة وبأسعار مناسبة أو معتدلة لا تحمل ذوي الدخل المحدود وأبناء الطبقة الوسطى تكلفة إضافية تزيد من أعباء الحياة الباهظة عليهم ولا تضر بتنافسية القطاعات الاقتصادية المستهلكة للطاقة.
كلمة أخيرة.. الإفلات من قبضة تزايد الطلب المحلي على النفط والمشتقات النفطية أمر يكتنفه الكثير من التحديات في مقدمتها إعادة النظر في الدعم غير الكفء لنظام أسعار النفط والطاقة في المملكة الذي يشجع على الإسراف في الاستهلاك ويقلل من جدوى الاستثمار في ترشيد الاستهلاك باستخدام تقنيات كفاءة الطاقة. وإيقاف هذا النزيف أمر ملح وضروري للحفاظ على مستوى آمن من العائدات للمملكة مستقبلا يمكنها من إدامة عجلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية وفق رؤية واضحة وأولويات محددة تترجم إلى سياسات وبرامج عمل. ونجاح هذه البرامج يتطلب قبل كل شيء وعي المستهلكين في كافة القطاعات بأن عدم ترشيد استهلاك الطاقة يدخل في باب تبديد المال العام، فالجميع مطالبون بالاقتصاد في استخدام الكهرباء والوقود والماء. والإسراف من كل نوع، حتى على الصعيد الشخصي شيء مذموم، وقد تكون له عواقب كارثية مستقبلا.