الدولة الفلسطينية بين القبول والرفض
مثلت نتائج حرب أكتوبر عام 1973، انتقالا استراتيجيا في السياسات العربية تجاه التعامل مع القضية الفلسطينية، فشعار تحرير فلسطين، الذي اعتبرت الحرب سبيلا لإنجازه، جرى الافتراق عنه رويدا رويدا، لتحل معه فكرة القبول بالصلح مع "إسرائيل"ـ واستند العرب في رؤيتهم الجديدة إلى جملة من الأمور، في المقدمة منها استحالة كسب الصراع عن طريق الحرب والتسليم بالأمر الواقع وقبول الممكن غير العادل على حساب العدل المستحيل.
كان من نتائج الاتجاه نحو التسوية السلمية مع الكيان الصهيوني بروز جدل حول أهداف واستراتيجيات النضال الفلسطيني. وأدى ذلك في نهاية المطاف إلى تغير جوهري وجذري في هدف واستراتيجية منظمة التحرير الفلسطينية. تغير الهدف من تحرير فلسطين من النهر إلى البحر، إلى القبول بدولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة تكون عاصمتها مدينة القدس الشريف. وعلى الصعيد الاستراتيجي، انتقل الفلسطينيون من الكفاح المسلح كسبيل لتحرير الأرض إلى التفاوض السلمي واعتبار العمل المسلح رديفا تكتيكيا في عملية التفاوض، لكن ذلك تلاشى نهائيا لمصلحة "هجوم السلام".
لكن الجدل بين فصائل المقاومة وشرائح فلسطينية واسعة تعيش في الشتات حول هذا الانتقال بقي محتدما حتى يومنا هذا. وفي مقدمة الجدل المحتدم، كان موضوع الدولة الفلسطينية المستقلة على الأراضي التي احتلت في حرب يونيو 1967، وتحديدا في الضفة الغربية وقطاع غزة.
وحول هذا الموضوع، يستعر الجدل بوتائر عالية في الأوساط الفلسطينية والإسرائيلية على السواء. وكان موضوع الدولة الفلسطينية محرضا لانعقاد عدد من المؤتمرات السياسية في الكيان الغاصب. وبالمثل كرست منظمة التحرير عددا من دورات المجلس الوطني الفلسطيني لمناقشة هذا الموضوع، ومحاولة التوصل إلى رؤية سياسية مشتركة بين فصائل المقاومة حوله.
في الداخل الإسرائيلي، يرى كثير من الذين يوافقون على قيام دولة فلسطينية مستقلة استحالة ضم الأراضي الفلسطينية التي احتلت عام 1967 إلى الكيان الصهيوني، والاحتفاظ في آن معا بيهودية هذا الكيان. إن انضمام الفلسطينيين إلى إسرائيل ومنحهم حق المواطنة الكاملة، إذا ما أخذ في الاعتبار النمو السكاني المتصاعد في صفوف الشعب الفلسطيني، سينهي يهودية إسرائيل. ولا يجد دعاة قيام الدولة الفلسطينية من الإسرائيليين الظرف ملائما لتكرار عملية ترانسفير مشابهة للتي نفذت أثناء حرب فلسطين عام 1947. أما اليمين الإسرائيلي، فهو بالضد من قيام دولة فلسطينية بغض النظر عن شكلها وصلاحيتها، لأن في ذلك حفاظا على الهوية الفلسطينية، بما يهدد باستمرار الوجود الإسرائيلي. إن الحل من وجهة النظر هذه مواصلة طرد الفلسطينيين من ديارهم وتهويد كامل الأرض الفلسطينية.
الموقف المتشابك أحيانا والمتنافر في أغلبية الأحيان من موضوع الدولة الفلسطينية، هو استمرار للوضع الاستثنائي والفريد للقضية الفلسطينية. فبخلاف حركات التحرر الوطني العالمية، واجه مشروع تحرير فلسطين منذ بداية انطلاقه صعوبات بالغة. فلأكثر من قرن، منذ عقد المؤتمر الأول للحركة الصهيونية، في بازل عام 1895، التي أقر تسمية فلسطين كبقعة مقترحة لتأسيس وطن قومي لليهود، اصطدم الكفاح الفلسطيني بظروف دولية وإقليمية ومحلية بالغة التعقيد.
وقفت القوى الدولية العظمى بقوة إلى جانب المشروع الصهيوني، واستثمر الصهاينة الميثولوجيا الدينية وعقدة الاضطهاد والتفوق، بما تحمله هذه العناصر من نزعات عنصرية واستعلائية جرى توظيفها للإسراع في تنفيذ اغتصاب فلسطين. فرض تقسيم فلسطين بموجب قرار أممي حمل الرقم 181، في تشرين الثاني (نوفمبر) 1947، الذي قسم فلسطين مناصفة بين العرب واليهود، وأنجز مشروع قيام الدولة اليهودية بإسناد دولي، لكن حلم الفلسطينيين بإقامة دولة خاصة بهم بقي مؤجلا حتى يومنا هذا.
بعد الإعلان عن قيام الكيان الغاصب أصبحت معضلة تحرير فلسطين تكمن في تحولها من بلد يحتله البريطانيون بموجب صك انتداب أممي، إلى كيان استيطاني، أصبح السكان الأصليون فيه أقلية. وغدت فيه الضفة الغربية وقطاع غزة رهينة تحت سيطرة أنظمة عربية لم تحمل رغم خطاباتها العنترية مشروعا لتحرير الأراضي المقدسة. وحين أجبرت هذه الأنظمة على الانهماك في هذه القضية، أمسى موضوعها الرئيس استعادة الأراضي التي فقدتها في نكسة يونيو وليس تحرير فلسطين.
وبدلا من توحد الفلسطينيين حول هدف واستراتيجية التحرير، تسببت في حدوث شروخ عميقة بين فصائل المقاومة الفلسطينية، فمنذ السبعينيات من القرن الماضي انقسم المقاومون الفلسطينيون إلى أطراف عدة، الأبرز بينهم قبل التفاوض مع الإسرائيليين بما يتسق مع التسليم بقرارات وليس مبادئ "الشرعية الدولية"، وبشكل خاص قرار مجلس الأمن الدولي رقم 242. الذي اعتبر مستشار الرئيس الأمريكي جونسون للأمن القومي هنري كيسنجر القبول به شرطا للدخول في أية مفاوضات سلمية بين العرب والصهاينة. الطرف الآخر في المعادلة عدمي، يرفض التسليم، لكنه لا يحمل مشروع تحرير قابلا للتنفيذ على أرض الواقع.
هذه القراءة، تضعنا أمام مسألة الدولة الفلسطينية، العنوان الذي تصدر نشرات الأخبار في الأسابيع القليلة المنصرمة، بعد زيارة رئيس السلطة محمود عباس وإلقاء خطابه التاريخي في نيويورك أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة، ومطالبته المجتمع الدولي بالاعتراف الكامل بالدولة الفلسطينية المستقلة، واعتبارها عضوا في الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية الأخرى. مشروع أبو مازن، رغم أنه يتسق مع مبادئ القانون الدولي وحق الأمم في الحرية وتقرير المصير، لكنه يواجه بجدار كثيف من الرفض من قبل إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما ورئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو. وأعلن المندوب الأمريكي في مجلس الأمن الدولي أن بلاده ستستخدم حق النقض في حالة عرض المشروع للتصويت.
وعلى صعيد الفلسطينيين، يواجه المشروع معارضة حادة من قبل شرائح واسعة، وبشكل خاص من قبل الفلسطينيين في قطاع غزة، تحت قيادة حركة حماس، وفي المنافي، وتجاوز تعدادهم سبعة ملايين نسمة، يقيمون في الشتات وفي المخيمات المنتشرة في الأردن وسورية ولبنان. فهؤلاء يرون أن الدولة ينبغي ألا تكون ثمرة التفريط في الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني. وهكذا نجد أنفسنا أمام فصل جديد من صراع الإرادات.
بالنسبة للكيان الصهيوني، لا يتوقف الأمر عند رفض المشروع ومطالبة السلطة بالعودة للمفاوضات كطريق وحيد للقبول بقيام دولة فلسطينية على الأراضي التي احتلها الصهاينة عام 1967، لكنه يصل إلى حد التهديد باجتياح إسرائيلي لمدن الضفة الغربية. ولتبدأ مرحلة جديدة من مصادرة الأراضي وبناء المستوطنات، كرد عملي من قبل الحكومة الإسرائيلية على مشروع الاعتراف بالدولة الفلسطينية.
يواجه نتنياهو المطلب الفلسطيني الذي ينتقص كثيرا من حقوق الفلسطينيين بالرفض والتحدي، فيعلن بدء حكومته تنفيذ خطة لبناء 1100 وحدة استيطانية جديدة في مستعمرة جيلو في محيط القدس الشرقية. ونتياهو بتحديه للقرار الفلسطيني لا يستبعد اندلاع انتفاضة فلسطينية، لا يعلم أحد مداها ومستوى العنف الذي يصاحبها. وهو بخطوته هذه يمارس عملية تصدير للأزمة التي تعصف بحكومته، نتيجة تصاعد الاحتجاجات في فلسطين الداخل، المتمثلة في المظاهرات الصاخبة من قبل "الإسرائيليين" الذين يطالبون بالعدالة الاجتماعية.
وكان نتنياهو قد شكل لجنة من الخبراء برئاسة البروفيسور مانويل تراختنبرغ لإعداد خطة لمعالجة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وقدمت توصياتها للحكومة مطالبة بخفض الميزانية الأمنية بمبلغ ثلاثة مليارات شيكل سنوياً بدءا من السنة المقبلة. ورأى الجنرال بني غانتس رئيس أركان الجيش الإسرائيلي في تخفيض الميزانية العسكرية عودة بالجيش إلى أوضاع ما قبل حرب لبنان في يوليو 2006.
وتذهب بعض التحليلات إلى ما هو أبعد من ذلك، فتذكر احتمال تبني نتنياهو قرار بتوجيه ضربة عسكرية للمنشآت النووية الإيرانية، كهروب للأمام من الأزمة التي تواجهه ولفرض واقع جديد، يجعل القضية الفلسطينية، إلى ما لا نهاية، في أدنى اهتمامات المجتمع الدولي.
من غير المتوقع أن تسلم أي حكومة إسرائيلية يمينية بقيام دولة فلسطينية، حتى إن كان استقلالها شكليا، يضمن بقاء الفلسطينيين رهائن لجيش الاحتلال الإسرائيلي. ويستدل كثير من المحللين على ذلك باستشهاد نتنياهو في خطبته في الجمعية العمومية للأمم المتحدة بأقوال الحاخام العنصري من لوبافيتش، الذي اشتهر بمعارضته الشديدة لانسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها، في مقابل سلام شامل. لقد قدم له الرئيس الأمريكي باراك أوباما دعمه الكامل، وليس هناك ما يجبره على التراجع عن موقفه الرافض للتسليم بالحقوق الفلسطينية المشروعة.
خطاب الرئيس الفلسطيني محمود عباس في الأمم المتحدة جاء بعد أكثر من 35 عاما على خطاب الرئيس ياسر عرفات، الذي أعلن فيه، من على المنصة نفسها، أنه جاء حاملا البندقية بيد وغصن الزيتون باليد الأخرى، مطالبا المجتمع الدولي بالاعتراف بالحقوق الفلسطينية، ولم تشفع له البندقية ولا غصن الزيتون أو تقربه من هدف التحرير. خطاب أبو مازن حمل غضن الزيتون فقط، وهو غصن تيبس من طول الانتظار وجرد من أي قوة ومضمون. فقد هودت القدس جغرافيًّا وبدأ تهويدها ديموغرافيا، ولحقت بها الضفة أو تكاد، وحولت غزة إلى معتقل كبير، وتم بناء الجدران العازلة. وتتسارع نوايا الترانسفير للوطن البديل، كما أن القيادة الفلسطينية تسببت في تآكل الكثير من الحقوق.
وتبقى المحاور كثيرة ومفتوحة، وستظل فرص قيام الدولة الفلسطينية رهينة لصراع الإرادات.