استثمارات المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية - بقية من حديث
أكمل اليوم حديثي الذي بدأته في مقال الأسبوع الماضي عن المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية واستثماراتها التي تشكل أحد مصادر التمويل فيها، وأبدأ بتقديم شيء من الشرح الذي أروم منه الإجابة عن تساؤلات أحد الإخوة الذين سجلوا بعض التعليقات المتسائلة حول مضمون ذلك المقال. الأخ الكريم رأى أن ما طرحته تضمن شيئا من التناقضات المخلة، فهو رأى أن دعوتي للمؤسسة لتنويع مصادر الدخل والاستثمار وخلق فرص استثمارية جديدة تعود على المؤسسة بعوائد مجزية تدعم احتياجاتها التمويلية وتمويل مبادرات الشباب ودعم جهود البحث والتطوير ودعم الحاضنات التقنية والصناعية إنما هو من أنشطة المسؤولية الاجتماعية وليس فرصا استثمارية بالمعنى الاستثماري الذي يحقق عوائد مجزية للمؤسسة. ورأى أيضا تناقضا فيما ذكرته من أن المؤسسة أشغلت نفسها بالعمل كمطور عقاري بما يمكن أن يشغلها عن أداء مهامها الأساسية، ثم دعوتي المؤسسة إلى قيادة مبادرات حقيقية لتأسيس كيانات متخصصة في التطوير العقاري المتخصص في مجال الإسكان. وأقول في معرض الإيضاح أن المؤسسة وهي تشتكي من قلة القنوات الاستثمارية المحلية، وتوظف هذه الشكوى لتبرير توجهها المتنامي للاستثمارات الخارجية، إنما هي تغمض أعينها عن الفرص الخفية في السوق المحلية، التي يمكن لها أن تعمل فيها كصانع للسوق وخالق للفرص التي يمكن أن توجه إليها استثماراتها لتحقيق عوائد مجزية من ناحية، والمساهمة في تنمية الاقتصاد المحلي من ناحية أخرى. إن هذه الفرص الكامنة في مبادرات الشباب ومجالات النقص العديدة والمشكلات التي نعيشها في مختلف مجالات الحياة والتنمية تتطلب توجيه يد الرعاية إليها ليس فقط من قبيل المسئولية الاجتماعية، وإنما من قبيل رعاية هذه الفرص وتنميتها لتتحول إلى كيانات استثمارية ناجحة يمكن أن تعود على أصحابها والمستثمرين فيها بالعوائد المجزية التي يتطلعون إليها. هذا الدور الذي أتحدث عنه هو الدور الذي يسمى اصطلاحا بالمستثمر الملاك (Angel Investor)، الذي يقوم فيه باستثمار جزء من رأس ماله المغامر لاقتناص الفرص الوليدة والواعدة لتكوين كيانات تجارية واستثمارية تنمو على المدى الطويل لتحقق له عوائد مجزية. أما عن الجزء الثاني من التعليق فأقول إن المؤسسة قد قررت بعد فترة من التجربة المليئة بالمعاناة أن تنتقل من ممارسة التشغيل الذاتي لمشروعاتها الاستثمارية إلى الاستثمار في كيانات متخصصة في تلك المجالات. فالمؤسسة على سبيل المثال حولت استثماراتها المباشرة في القطاع الطبي إلى كيانات متخصصة في هذا القطاع، فأنشأت شركة رعاية الطبية التي أصبحت تملك تلك المرافق الطبية التي كانت المؤسسة فيما مضى تقوم على تشغيلها ذاتيا. ومن المنطلق ذاته، جاءت دعوتي للمؤسسة لقيادة مبادرات حقيقية لتأسيس كيانات متخصصة في التطوير العقاري المتخصص في قطاع الإسكان، والبعد عن العمل المباشر في التطوير العقاري من خلال موارد المؤسسة البشرية الذاتية. هذا التحول يحقق للمؤسسة إمكانية التفرغ لأداء مهامها الأساسية، وللكيانات التي تسهم في تأسيسها والاستثمار فيها فرصة النمو والتخصص وتنمية القدرات الذاتية، وهو ما سيعود عليها بعوائد استثمارية مجزية على المدى الطويل.
من جهة أخرى، فإن المؤسسة هي في الحقيقة ضحية واقع وجدت نفسها فيه مسؤولة عن مهمة جسيمة دون أن توفر لها الدولة المناخ الملائم والوسائل اللازمة لتمكينها من أداء هذه المهمة بالشكل المطلوب. فالمؤسسة أجبرت على أن تعمل تحت كادر ديوان الخدمة المدنية، وأصبحت في النتيجة غير قادرة على استقطاب كفاءات بشرية متخصصة لقيادة جهودها وتنفيذ خططها الاستثمارية ضمن المعدلات المنخفضة للدخول التي يوفرها كادر الخدمة المدنية، وهو ما حدا بالمؤسسة إلى الالتفاف على هذا الواقع عبر تأسيس شركة ''حصانة'' المستقلة لتكون ذراعها الاستثماري المتخصص، حتى تتمكن من استقطاب وتوظيف كفاءات بشرية تمكنها من تنمية قدراتها الاستثمارية. إن حالات الفشل والخلل في كثير من استثمارات المؤسسة هو نتيجة لضعف القدرات الاستثمارية لدى منسوبيها وغياب تبني منهج احترافي لاختيار الفرص الاستثمارية الملائمة وتنويع المخاطر وغير ذلك. ونحن نرى كثيرا من الحالات التي يتم وضع مؤسسة التأمينات الاجتماعية والمؤسسة العامة للتقاعد في مقدمة المستثمرين في عدد من الشركات التجارية الجديدة، وكأنما تأتي هذه القرارات فرضا عليهما وليس بقرار استثماري داخلي ناتج عن دراسة وتحليل عميق لهذه الفرص، وها نحن نرى بعض هذه الاستثمارات وقد أصابها الفشل أو التعثر. ومع أن توجه المؤسسة لفصل نشاطها الاستثماري في شركة حصانة المستقلة هو توجه محمود بشكل عام، إلا أن هذا التوجه يجب أن يشهد فصلا حقيقيا للقرار الاستثماري عن سلطة قيادات المؤسسة، خاصة أن النموذج الآخر لشركة الاستثمارات المملوكة للمؤسسة العامة للتقاعد لا يعد نموذجا ناجحا في وجهة نظر الكثيرين. أخشى ما أخشاه هنا هو أن تكون هذه الشركة الجديدة سببا في إهدار المزيد من الموارد إن هي لم تتمكن من العمل بعقلية مختلفة وصلاحيات مستقلة عن قيادة المؤسسة. والأمر الآخر الذي يمكن للمؤسسة أن تقوم به هو تأسيس مجموعة مستقلة من المستشارين الذين يمكن أن توظف المؤسسة خبراتهم المخزونة وقدراتهم الفكرية لدعم خططها وتوجهاتها الاستثمارية. وهو ما يمكن أن يحقق للمؤسسة آلية فاعلة لتوظيف خبرات محترفة في المجال الاستثماري دون أن تكون محملة على بنود مصروفات الرواتب الشهرية فيها.
من جهة أخرى، فإن المؤسسة وهي تبحث عن مصادر لتمويل استثماراتها وتنمية مواردها المالية التي ستمكنها من الإيفاء بالتزاماتها تجاه المشتركين قد أغفلت أحد أهم مصادر التمويل المتاحة، وهو مدخرات المواطنين. فالمؤسسة ما زالت حتى الآن تعمل على استثمار مواردها من رسوم الاشتراك، التي تمثل المصدر الوحيد لدخل المؤسسة في الوقت الراهن إلى جوانب عوائد استثماراتها القائمة. وأنا أتساءل هنا إن كانت المؤسسة قد فكرت، إن لم يكن هناك مانع نظامي، في تأسيس محافظ استثمارية توظف مدخرات المواطنين وتضخها في استثمارات تقوم المؤسسة على إدارتها وتنميتها والمشاركة في أرباحها. إن المؤسسة بما تملكه من موارد مالية سائلة كبيرة، ومكانة استثمارية رائدة، وسمعة ائتمانية مميزة، يمكن لها أن تصدر صكوكا استثمارية تجمع مدخرات المواطنين السائبة التي تبحث عن عوائد مجزية، وتوظفها في مشروعات واستثمارات تعود بالنفع على الجميع، وتحقق للمؤسسة مصدرا إضافيا من مصادر التمويل. قد يقول قائل إن المؤسسة تملك موارد مالية سائلة كبيرة تغنيها عن استقطاب أموال ومدخرات المواطنين. وأقول في المقابل إن هذا الأسلوب قد تم تبنيه في كثير من الشركات والكيانات التي تتمتع بمثل هذه الموارد المالية، ومنها على سبيل المثال شركة سابك وشركة الكهرباء، ومع ذلك فهي تقوم بإصدار صكوك وتأسيس محافظ استثمارية تجمع من خلالها مزيدا من الأموال لتمكينها من التوسع في استثمارات مجزية تعود على الجميع بالنفع. وهو ما ينسجم مع الدور الاجتماعي الذي يطبع عمل المؤسسة واختصاصها بخدمة القطاع الخاص ومنسوبيه.