30 دقيقة!

في عام ٢٠٠٤ أقنعت جلوريا مارك - الباحثة الأمريكية والأستاذة في جامعة كاليفورنيا - عددا من شركات التقنية في الولاية بدراسة تطبقها على الموظفين في هذه الشركة.
هدفت الدراسة لتحديد معدّل الانقطاعات التي تحدث مع الموظفين خلال يوم عملهم، هذه المقاطعات التي بدأت بالتأثير في معدل الإنتاجية وقدرات التفكير والذاكرة لديهم. العينة المختارة كانت مجموعة من الموظفين والموظفات الذين تمت دراستهم لأكثر من ألف ساعة خلال يوم العمل. بعد جمع البيانات توصلت الدراسة إلى أنّ الموظفين يمضون 11 دقيقة تقريباً على كلّ مهمة قبل مقاطعة خارجية ومن ثمّ الانتقال لمهمة أخرى دون إكمال ما سبق وهكذا. بينما درست من جهة أخرى المدة اللازمة لعودة الموظفين للعمل المنقطع وهي بمعدل 25 دقيقة، أيّ أن يوم العمل ينتهي وغالباً كل المهمات مقتطعة تنتظر الإكمال في يوم آخر.
جلوريا مارك وغيرها من علماء الإنسانيات وعلم الاجتماع وجدوا أن شركات التكنولوجيا الشهيرة لا تخصص الكثير من الوقت لدراسة تفاعل البشر مع البرامج والأجهزة التي تغرق بها الأسواق. كلّ ما يحدث هو البحث عن المزيد والمزيد من الاختراعات التي تجعلنا نقدّس المهام المتعددة والانقطاعات أكثر من أيّ وقت مضى.
والمشكلة الحقيقية التي وجدها العلماء ليس الانقطاع في حدّ ذاته، بل ما يفعله بذاكرتنا قصيرة المدى "ماذا كنّا نفعل قبل قليل؟" أو "كيف وصلنا هنا؟" كال نيوبورت - كاتب ومتخصص في مجال إدارة الوقت وأسرار النجاح - خاض أخيرا تجربة قضاء يوم كامل (12 ساعة) في العمل دون انقطاع، وكان الشرط الأساسي لنجاح هذا اليوم من التركيز المفتعل أن يمضي 30 دقيقة على كلّ مهمة يبدأها ولا ينتقل لغيرها حتى تنتهي هذه الدقائق. وبعد انتهاء هذه التجربة خرج نيوبورت بعدد من الملاحظات المهمة. أوّلها كونه وضع لنفسه هذا الشرط فهو ملزم تماماً بعدم الانتقال بين مهمّتين خلال الوقت المخصص، وإن حصل ذلك فعلياً فهو مضطر لإكمال الـ 30 دقيقة المخصصة.
مثال على ذلك انشغاله بالعمل على بحث أكاديمي ثمّ شعوره بالفضول الشديد لمراقبة بريده الإلكتروني والتأكد من الرسائل. وبمجرد أن يطلع على الرسائل يصبح ملزماً بالرد عليها وقراءة كلّ منها لمدة 30 دقيقة قبل العودة إلى عمله الرئيس.
إبقاء هذه الفكرة في ذهنه ساعدته على تحاشي المقاطعة والتحقق من البريد، وأخذ هذا الأمر إلى مرحلة أخرى عن طريق إبلاغ زملائه برسالة مسبقة بالوقت المخصص لمقابلتهم، وفي حال لم يتمكنوا من ذلك فإنه سيخصص لهم وقتاً في اليوم التالي وهكذا على ألا يتوقعوا منه رداً على بريدهم الإلكتروني خلال فترة انشغاله. في يومه المخصص للتركيز الكامل وجد كال أنّه أنجز الكثير، أكثر مما يمكن تخيله من قبل، وفي نهاية اليوم وجد المزيد من الوقت الفائض مما جعله يطرح على نفسه تساؤل "ما الذي يمكن فعله في 30 دقيقة إضافية؟".
لكنه أيضاً يعترف بأن العملية صعبة، خصوصاً مع كمية التواصل الذي يحيط بنا اليوم ونحن بالضرورة مضطرون للتخطيط مسبقاً لكلّ يوم نرغب بالعمل فيه دون انقطاع وبتركيز عالٍ. هذه هي السلبية الوحيدة التي خرج بها كال من تجربته، بينما ظهرت الإيجابيات في صورة مشاريع منجزة. قضى كال ساعتين ونصف الساعة في العمل على كتابه الجديد، بينما قضى ثلاث ساعات ونصف في العمل على مشكلة بحثية.
وهذا الوقت بلا اقتطاع أو تشتت ذهني، بينما خصصّ وقتاً للأكل وممارسة الرياضة وزيارة الطبيب لموعد مسبق.
خطة كال على الصعوبة التي تنطوي عليها محفزة لنا للبحث عن مخرج مماثل!
اكتب هذا المقال في برنامج تحرير النصوص وأقاوم بشدة الرغبة في التحقق من بريدي الإلكتروني، إجابة رسائل على الهاتف، وتصفح موقع إخباري مهمّ.
أمامنا طريق طويل لمكافحة هوس الانقطاعات الذي يمتصّ ذواكرنا وطاقاتنا، لكننا نستحق المحاولة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي