لا ثورة في سنغافورة (1 من 2)
- بما أن كل قرينٍ بقرينه يقتدي، فلم لا تقتدي كل أمّةٍ بقرينتها؟
سنغافورة ليست جنة على الأرض، وليس هناك أصلاً جنانٌ على الأرض، ولكن سنغافورة خُططت بعقلية رجل واحد، ليس أذكى الناس، ولا أكثرهم مقدرة على قراءة التاريخ الأُمَمِي، والإيمان بمبادئ العدل الإنساني، واستشراف المصير، واستكناه مستقبل الشعوب.. إنما كان صادقاً ومخلصاً وعادلاً، ليس العدل كما تصفه المعتقدات، وعلم الأخلاق، بل نوعٌ جلـِيٌّ من العدل المستبد. حكم سنغافورة وحيداً بلا أحزاب، وبلا أجندةٍ خاصة، جافاً حتى مع عائلته بالجزيرة التي تحت حكمه انتقلت من جزيرةٍ غافيةٍ لتائهي البحار، إلى أنشط معرض تجاري ومالي كوني طافٍ على المحيط.
أرسى ''لي كوان يو'' دولةً واقعيةً، لا دولة الفلاسفة، ولا المدينة الفاضلة، ولكن دولة العمل؛ مَن لا يعمل لا يعيش، إن اخترت أن تصبح فقيراً والعمل متوافر لا رحمة لك ولا ضمان اجتماعي. العملُ في المدينة - الدولة سنغافورة أيقونة من الأقداس، من ناحيتين: كل فرد بالغ ''يجب'' أن يسعى إلى العمل، وأن من يسعى للعمل ''يجب'' أن يجده. وهذه كانت أكبر لمعات القائد ''لي كوان يو''.
لما استقلت سنغافورة عن ماليزيا دار سؤالٌ بالأوساط العالمية السياسية: ''كيف تتجرّأ سنغافورة أو ''لي كوان يو'' على الاستقلال عن ماليزيا، وهي جزيرة مجهرية بمحيط شاسع مليء بأسماك القرش المفترسة والحيتان القاتلة؟'' وبزغت نظرية ''توازن الضعف الخلاق'' التي جعلت سنغافورة رغم صغرها وجاذبيتها الآسرة أكثر أرض آمنة في حزام المحيط الهادي، إن لم تكن بالعالم.. وهنا درس في الحُكـْم والرؤية والواقعية بتوازن الحياة مع الرعبِ والأمل، بربط دول العالم داخلها بمصالحهم، نظرة ''لي كوان يو'' الذي يجري في عروقه إرثه الصيني الموغل بمعتقدات المصلحة الواقعية.
يقول ''شان لي'': ''البطالة عندنا صفر!''. شان لي، سائق تاكسي يقود سيارة تابعة لشركة تملك السيارات، فغير مصرح للأفراد بتملك السيارات الأجرة بسنغافورة، لم؟ لأنهم أرادوا أن يقدموا مصالح السياح والمستثمرين فلا يجدون عنتا مع ألاعيب سائقي الأجرة المشهورة في كل الدول، ويمكنهم التحكم في شركات نقل معدودة، وقد ترى أنهم ضحوا بمصلحة الفرد من أجل الأمة، والحقيقة استفاد الفرد، صارت سنغافورة محطة الأعمال والسياحة الدولية إلا لمكاتب وشركات تأجير السيارات، لأن السائح أو الزائر لا يحتاج التأجير في ظل نظام يخدمه، فازدهر عمل الأفراد! والراكبُ ملكٌ غير متوج بسيارة الأجرة فكلها تعليمات تحذر السائق من عقوبات المخالفة، لذا التنقل بسيارات الأجرة والحافلات الصغيرة من مُتع سنغافورة.
''لي كوان يو''، لم يحب الشعراء ولا الفلاسفة ولا كهنة الأديان، ركز على العلم التطبيقي والمالي والتسويقي - مثلا: سنغافورة تدرس بها إدارة الموانئ وتؤخذ الشهادات العليا بها بمناشطها المختلفة من إدارة البوابات، إلى ساحات البضائع بأنواعها، إلى تحريك الآلات، إلى قيادة السفن، وإدارة التواصل وراء البحار.. لذا، عندما تقف في شرفة بالطابق الستين في ''فندق مارينا باي ساندز'' ـــ وهو أعجوبة معمارية من ثلاثة أبراج تشق الأفق، ويبدو وكأن توازنت على سطح الأبراج الثلاثة سفينةٌ ضخمة والتي بها بركة السباحة الشهيرة التي تبدو وكأنها تسقط في الأفق من سبعين دوراً - من تلك الشرفة سترى أكبر منحنى لخط المحيط، والمشهد الذي ستراه سيُسْقط فكـّيْك تعجباً.. أعدادٌ لا حصر لها من السفن عابرات المحيطات تنتظر في شساعة المياه ليصل دورها للتفريغ والتحميل بميناء آسيا الأول.
الأديان لم تضمر في سنغافورة، بل راجت ولكن بلا تماس ولا تقاطع فَـ ''لي كوان يو'' حرم النقاشَ العام عن الأديان علناً بعقاب قد يصل للخيانة.. ولكنك ترى مظاهر الأديان وطقوسها من البوذية والتاميل والمسيحية والإسلام.. وأجمل ما في شوارع سنغافورة، وكلها جميلة، أن المسلمين هم الوحيدون الذين تعرفهم بملابسهم الخاصة وحجاب النساء، كل المسلمين وليس لبسا خاصا يدل على الالتزام أو المشيخة.. شيءٌ آخر يقوله لي مفكرٌ سنغافوري من أصول هندية وهو هندوسي: مسجَّلٌ في سنغافورة التناقل بين الأديان، إلا الدين الإسلامي يسجل دخول إليه، ولم يسجل خروج منه.
من أسباب أن كلمة ''ثورة'' لا وجود لها بالقاموس بسنغافورة توافر أهم ما يكفل عناصر حياة كريمة لأي مواطن: العلم، العمل، السكن، المساواة، والعدل.. وقانونٌ على رقاب الجميع.
وهناك أمورٌ وأسبابٌ أخرى، نتحدث عنها معاً يوم الإثنين القادم..