وسائل الإثبات أمام هيئة التحكيم (1)
لقد أثبت التحكيم التجاري أهميته في جميع المجالات الإقليمية والدولية، وأصبح أمرا لا تخلو دولة من دول العالم من النص عليه في أنظمتها أو إفراد نظام مستقل خاص به، كما أثبت أنه الخيار المفضل لحل كثير من النزاعات - التي تدخل في اختصاصه - نظرا لما يتميز به من مميزات تفضله عن غيره من وسائل حل المنازعات الأخرى، رغم أنه طريق استثنائي بديل للقضاء المعتاد والمعلوم، وقد هدف المشرع من النص عليه لوجود حاجة ماسة إلى تأسيس آلية قضائية أو شبه قضائية تهدف إلى تقصير إجراءات التقاضي بسرعة الفصل في النزاعات، دون التقيد بالإجراءات الشكلية المتشعبة والمنصوص عليها بنظام المرافعات الشرعية أو قواعد المرافعات أمام ديوان المظالم.
وانطلاقا من قاعدة أن التحكيم كالقضاء يُلجأ إليه لحسم الدعاوى التي ينظرها، فإنه بذلك يستخدم طرق الإثبات المنصوص عليها في الأنظمة، فقد نص نظام التحكيم الصادر بالمرسوم الملكي رقم م/46 في 12/07/1403هـ على أحقية هيئة التحكيم في اللجوء إلى أي من طرق الإثبات المنصوص عليها شرعا ونظاما لإثبات الدعوى التحكيمية والوصول إلى حكم فيها، شريطة أن يكون إجراء الإثبات المتخذ من قبل هيئة التحكيم منتج في الدعوى ومقبول شرعا ونظاما.
ومن وسائل الإثبات التي نص عليها النظام لإثبات الدعوى التحكيمية ما نصت عليه المادة الثامنة والعشرون من اللائحة التنفيذية لنظام التحكيم الصادرة بقرار مجلس الوزراء رقم 7/2021/م وتاريخ 08/09/1405هـ والمتضمنة إلزام أحد أطراف الدعوى التحكيمية بتقديم ما تحت يده من مستندات متعلقة بموضوع الدعوى؛ إذ نصت على أنه ''يجوز لهيئة التحكيم بمبادرة منها أو بناءً على طلب أحد المحتكمين إلزام خصمه بتقديم أي محرر منتج في الدعوى يكون تحت يده''، ويتضح من مطالعة هذه المادة أن طلب إلزام الخصم بتقديم مستند تحت يده قد يكون بناءً على طلب هيئة التحكيم إذا ما رأت هي وجوب ذلك وإن لم يطلبه أحد أطراف الدعوى التحكيمية.
وقد حددت المادة سابقة الذكر الحالات التي يُلزم فيها أحد الأطراف بتقديم المستند الذي تحت يده، وهي: أ- إذا كان مشتركا بينه وبين خصمه، ويعتبر المحرر مشتركا على الأخص إذا كان المحرر لمصلحة الخصمين أو كان مثبتا لالتزاماتهما وحقوقهما المتبادلة، ب- إذا استند إليه خصمه في أية مرحلة من مراحل الدعوى، جـ ـ إذا كان النظام يجيز مطالبته بتقديمه أو تسليمه، وقد تطلب نظام التحكيم حال طلب أحد خصوم الدعوى التحكيمية إلزام خصمه بتقديم مستند تحت يده أن يتوافر في هذا الطلب البيانات الآتية: 1- أوصاف المحرر الذي يعينه، 2- فحوى المحرر بقدر ما يمكن من التفصيل، 3- الواقعة التي يستدل بها عليه، 4- الدلائل والظروف التي تؤيد أنه تحت يد الخصم، 5- وجه إلزام الخصم بتقديمه..
وهدف المنظم من النص على هذه الوسيلة من وسائل الإثبات أنه قد يؤدي تقديم المستند الذي تحت يد الخصم إلى حسم الدعوى التحكيمية والحكم فيها، إلا أن المنظم لم يوضح الإجراء الذي يجب اتخاذه حال امتناع أحد الخصوم عن تقديم هذا المحرر، وفي هذا الصدد فعلى هيئة التحكيم أن تعرض الأمر على الجهة القضائية المختصة بالفصل في النزاع لإصدار القرار الذي تراه مناسبا بهدف إجبار الخصم على تقديم المحرر المطلوب تقديمه طبقا لأحكام نظام المرافعات الشرعية، كما لم يبين المنظم الإجراء واجب الإتباع إذا كان المستند لدى إحدى الجهات الرسمية.
ويكون تقدير مدى أهمية هذا المستند في الدعوى التحكيمية يكون مرجعه إلى هيئة التحكيم التي لها أن تأخذ بما تضمنه المستند، كما لها أن تطرحه جانبا، لكن يجب أن يكون قرارها مبنيا على أساس من الواقع والنظام، كما يجوز لهيئة التحكيم الأمر بأي من وسائل الإثبات والتحقيق الأخرى التي ترى جدواها في تحقيق الدعوى، وهذا ما تم النص عليه في المادة (30) من اللائحة التنفيذية لنظام التحكيم، والتي جاء فيها أنه ''لهيئة التحكيم أن تعدل عما أمرت به من إجراءات الإثبات بشرط أن تبين أسباب العدول في محضر الجلسة ويجوز للهيئة ألا تأخذ بنتيجة الإجراء مع بيان أسباب ذلك الحكم''، وليس للخصوم الطعن في هذا القرار - العدول عن إجراء الإثبات إلى غيره - مستقلا عن الطعن في الحكم الصادر في الدعوى، ولكن له الاعتراض على أي من هذه الإجراءات أو التحفظ عليها، وهدف المنظم من وجوب بيان أسباب عدول هيئة التحكيم عن وسيلة الإثبات التي أمرت بها إلى غيرها، حتى يكون ذلك تحت رقابة المحكمة المختصة إذا ما تم الطعن في الحكم الصادر من هيئة التحكيم أمامها.
إلا أن نظام التحكيم قد قيّد سلطة هيئة التحكيم حال الأمر بأي من وسائل الإثبات، بأن تكون هذه الوسيلة منتجة في الدعوى وجائزا قبولها؛ إذ نص في المادة (29) من اللائحة التنفيذية لنظام التحكيم على أنه ''لهيئة التحكيم أن تأمر بوسائل التحقيق المنتجة في الدعوى متى كانت الوقائع المراد إثباتها متعلقة بالمنازعة وفوائده وجائزا قبولها''، ويرجع تقدير مدى جدوى هذه الوسيلة في الدعوى التحكيمية عن غيرها إلى سلطة وتقدير هيئة المحكمة، التي أجاز لها النظام الاختيار بين أدلة الإثبات المتعددة المنصوص عليها شرعا أو في نظام المرافعات الشرعية أو اللائحة التنفيذية لنظام التحكيم، ما دامت هذه الوسيلة تهدف إلى تحقيق الدعوى والوصول إلى حكم عادل فيها.
وبذلك نرى أنه لا ضير أن تأخذ هيئة التحكيم بما يستجد من إجراءات إثبات حديثة يهتدي إليها العلم الحديث؛ تحقيقا لغاية التحكيم وهي سرعة الإجراءات والفصل في النزاع التحكيمي، كما لها تقصير المواعيد الخاصة بمسائل الإثبات عموما، وأهمها انتداب الخبراء وشهادة الشهود؛ وذلك لغاية التحكيم السابقة والخاصة بسرعة الفصل في الدعوى.