خدمات الإسكان.. الأزمة الخفية

أزمة الإسكان في المملكة هي بحق القضية الأهم التي تشغل بال قطاع كبير من المواطنين، ويدور حولها كثير من الجدل حول مسارات الحلول والمناهج التي تبنتها الجهات الحكومية ذات العلاقة لجسر الهوة الشاسعة بين العرض والطلب في الوحدات السكنية، ومعالجة مشكلة ارتفاع أسعار الأراضي والوحدات العقارية لتتجاوز بمراحل قدرات وإمكانات المواطنين البسطاء الذين يبحثون عن تحقيق حلم تملك المسكن. والحقيقة أن كل الجهود المبذولة حاليا قد ركزت على التعاطي مع جوانب محددة من جوانب الأزمة، والتي تتركز في جوانب العرض والطلب والتمويل. ومع أن هذه الجوانب تمثل محاور رئيسة من محاور الحل، إلا أن هناك جانبا آخر يحمل أهمية كبرى في منظومة الحل، ويشهد تغييبا وإهمالا كبيرين من كل الجهات ذات العلاقة بهذه القضية. هذا الجانب هو جانب الخدمات المتعلقة بقطاع الإسكان، والتي تمثل منظومة من الأدوات والخدمات التي تسهم في تدوير عجلة القطاع وتفعيل دورته التنفيذية. هذا المقال يسعى إلى توجيه الانتباه لهذا الجانب الحيوي عسى أن يجد له مكانا في أجندة اهتمامات الجهات التي تسعى إلى حل أزمة الإسكان في المملكة.
أبدأ أولا بتعريف مفهوم خدمات الإسكان، وأقول إنها منظومة الخدمات التي تقدمها جهات تخصصية مختلفة لإتمام عملية تملك المسكن. هذه الخدمات تتباين في طبيعتها ونوعيتها ومستوى وتوقيت الحاجة إليها تبعا لاحتياجات الأطراف ذات العلاقة بعملية تملك المسكن، وتبعا لواقع السوق وكم المعلومات المتوافرة في هذه العملية. النموذج الأقرب للجهات التي تقدم هذا النوع من الخدمات هي المكاتب العقارية التي تقوم بدور الوسيط بين البائع والمشتري، وهو نموذج أعده قاصرا حتى الآن عن أداء الدور المأمول منه نتيجة لقصور الفهم لدى العاملين في هذه المكاتب باحتياجات السوق ومتطلبات أطراف العملية، علاوة على غياب مبدأ الحياد في الوساطة العقارية نتيجة لكون هذا الوسيط يحصل على أتعابه كنسبة من صفقة شراء المسكن، وهو ما يعني بالضرورة انحيازه إلى طرف البائع في هذه العملية. وفي السوق السعودية الذي يتصف قطاع الإسكان فيه بالفوضوية وغياب الاحترافية ونقص المعلومات الفنية والتسجيلية حول الوحدات السكنية فإن الحاجة إلى منظومة متكاملة من الخدمات المتعلقة بقطاع الإسكان أصبح أكثر إلحاحا مما مضى، خاصة مع دخول أطراف أخرى في عملية تملك المساكن بخلاف البائع والمشتري، بما في ذلك جهات التمويل التي تعد المحرك الرئيس لسوق تملك المساكن. والمشكلة التي أراها في السوق السعودي أن جميع الأطراف في سوق الإسكان يفرضون شروطهم ومتطلباتهم ومعاييرهم الخاصة دون أن يتمكن أحد من التوفيق بين هذه المتطلبات التي يشوبها في أغلب الأحيان كثير من التعارضات التي تحول دون إتمام عملية تملك المساكن، أو على الأقل تجعلها أكثر عناء وصعوبة بما يحملها مزيدا من التكاليف غير المنظورة التي تسهم في تعميق مشكلة ارتفاع الأسعار بشكل عام.
لكي أوضح الصورة حول ما أريد طرحه في هذا الموضوع سأسرد فيما يلي قصة تجربة شراء مسكن لمواطن سعودي نمطي يمثل الشريحة الأكبر من متوسطي الدخل في المملكة. فصالح قرر وزوجته شراء منزل بعد سنوات من نزيف الموارد في إيجار شقة لم يرحمهما مالكها وهو يزيد من قيمة الإيجار عاما بعد عام. وبعد أن حددا ملامح المسكن الحلم والحي الذي يريدان السكن فيه بدأ صالح بالتجول بين المكاتب العقارية في ذلك الحي، وفي كل مرة كان مندوب المكتب، وهو أجنبي في الغالب، يعرض عليه عددا من الوحدات المعروضة لديه من قبل ملاكها، وكل ما كان يزوده به عن تلك الوحدات هو كم يسير من المعلومات لم يكن يتجاوز مساحة الوحدة وموقعها والشوارع التي تطل عليها وما تضمه من غرف ومنافع، وأخيرا يضعه بين مقياسي السوم والحد الذين يمثلان الوسيلة الوحيدة لتقييم الوحدات العقارية في المملكة. بعد أن وجد صالح عددا من الوحدات التي يمكن أن تناسب متطلباته بدأ جولة مضنية على تلك الوحدات بصحبة مندوبي المكاتب العقارية الأجانب الذين كانت كل مهمتهم فتح باب الوحدة للمعاينة دون إضافة أية معلومات عنها. ولأن صالح لا يملك أية خبرة أو معرفة هندسية فإنه كان مضطرا لفحص تلك الوحدات بعينه المجردة وبصورة سطحية. وبعد عدة أشهر من البحث والتجوال بين المكاتب العقارية والوحدات السكنية التي كانت تحمل لوحات تعلن عرضها للبيع وجد صالح ضالته في وحدة توافق متطلباته وإمكاناته، وبدأ جولة أخرى على البنوك وشركات التمويل العقاري بحثا عن العرض الأفضل الذي يلائم إمكاناته المتواضعة، وهي تجربة لم تكن أقل عناء من تجربة البحث عن المسكن بكل ما واجهه من تلك البنوك من شروط وطلبات وجد صالح أنها كانت بعيدة كل البعد عن تلك الحملات الإعلانية المغرية التي كان يراها على صفحات الجرائد عن قروض سهلة وميسرة من تلك البنوك. وبعد أخذ ورد وبحث وتمحيص توصل صالح إلى اتفاق مع أحد تلك البنوك، واستكمل كل الإجراءات التي فرضها عليه بما فيها تحويل راتبه إلى ذلك البنك، وقام بتوقيع عقد الشراء مع البنك واستلم مفاتيح المسكن وبدأ رحلة أخرى من المعاناة في الانتقال إلى المسكن الجديد ووضع بعض اللمسات الشخصية عليه ومعالجة بعض العيوب الظاهرة فيه. فرح صالح وزوجته بتحقيق الحلم، وعاشا مزيدا من الأحلام الوردية التي أرادا لهذا المسكن أن يكون منطلقا لتحقيقها. بعد فترة حل الشتاء الأول على صالح وزوجته، وبدأت رحلة جديدة من المعاناة من مشاكل فنية بدأت تظهر هنا وهناك في المسكن الذي اشتراه، وبدأت أسقف المنزل تسرب المياه مع أول هطول للمطر، وبات صالح وزوجته يضربان كفا بكف على هذا المسكن الذي اشترياه ليكون سكنا لهما فإذا به ينقلب وبالا عليهما، وأصبحا الآن أمام حلين أحلاهما مر، فإما تكبد مزيد من الأموال لإصلاح المنزل وترميمه، وإما الرجوع إلى البنك لإلغاء الصفقة وخسارة جزء مما دفعه مقابل الخروج من هذه الورطة.
قصة صالح هي قصة كل مواطن سعودي يريد شراء مسكن يأوي إليه، وهي قصة تقليدية يمكن أن يكون البعض قد عاش أجزاء منها أو عانى ما هو أشد مما عاناه صالح فيها. وما أريد قوله من هذه القصة هو أن صالح وأشباهه يضطرون إلى خوض غمار هذه المعاناة دون معين أو مرشد، والوسيط العقاري الذي أرشده إلى المسكن انتهى دوره بإتمام الصفقة وقبض العمولة دون أن ينبهه إلى المخاطر التي كانت تحدق به. إن سوق الإسكان في حاجة ملحة إلى منظومة متنوعة من الخدمات التي كانت لتمكن صالح من تحقيق حلمه بشكل أكثر يسرا وأقل خطرا وربما أقل تكلفة مما تكبده في هذه الصفقة الخاسرة. وسأطرح في المقال المقبل ـــ بإذن الله ـــ رؤية لهذه المنظومة وما يمكن أن تسهم به في تطوير قطاع الإسكان وحل الأزمة التي تحيق به.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي