الاستثمار في زمن الأزمات ومستقبل الصناعة في المملكة (2 من 2)
طرقت الأزمات المالية المتتابعة اقتصادات العالم بشكل منتظم خلال القرن الحالي، وكان أشدها ما تعرضت له في أعقاب منتصف 2008 كما مر بنا في استعراض أزمات الاقتصاد العالمي في مقالنا السابق، ومن هناك أثيرت تساؤلاتنا عدة: أين نستثمر؟ وما دور دول الخليج عامة والمملكة خاصة في النهوض بالواقع الاقتصادي من هذه الأزمة؟ وما مصير الاستثمارات؟، لعلنا نستقرئ في أحداث اليوم ما يمتلك إجابة لكل هذه التساؤلات وغيرها.
فقد أسدلت دول مجلس التعاون الستار على القمة الخليجية الأخيرة التي عقدت في الرياض، وتكللت بمبادرة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله - حفظه الله - بتحويل المجلس من التعاون إلى الاتحاد بشكل يدل على بعد نظر يقود إلى أن تكون دول الخليج متحدة في هذا الوقت، وبشكل أهم من أي وقت آخر، فالعالم ينظر للمجلس أنه كتلة واحدة، ويجب أن يكون كذلك، وفي خضم هذا الإجراء يبقى السؤال قائماً: أين نستثمر؟ وهذا السؤال الصعب على الجميع - دولاً وأفرادا - مع ما يمر به العالم من أزمات واضطرابات سياسية تدور من حولنا يجعل من تدفقات الأموال خجولة إلى حد ما، وتحتاج إلى تعزيز الثقة من قبل الحكومات كي يقدم الأفراد والشركات على الاستثمار.
بمعنى آخر، أرى أن أفضل الاستثمارات تكون في مجال الصناعة بصورة عامة، وأكبر دليل على أن الصناعة هي المكون الحقيقي للاقتصاد القوي انعكاساتها في اقتصادات منطقة اليورو، حيث إن الاقتصاد الألماني - عملاق الصناعة والابتكار - هو الذي صمد في زمن هذه الأزمة الخانقة، وهذا درس نستفيد منه في دول الخليج، وعلى هيئات الاستثمار لعب دور أكبر في جذب الاستثمارات - ولا أقصد هنا الأموال، ولكن أقصد تشجيع الشركات الكبرى في العالم على نقل مصانعها وتقنياتها إلى دول الخليج بشكل عام والمملكة بشكل خاص - وأن تقوم هيئة الاستثمار في السعودية باستثمار حقيقي للمدن الاقتصادية التي لم نسمع عنها الكثير منذ فترة لتقوم بعمل التجربة الكورية نفسها على سبيل المثال.
ثم ما التجربة الكورية؟ إنها بكل بساطة إعطاء الحكومة الكورية من يرغب من الشركات الصناعية أرضا مجاناً نظير كل عدد من الأمتار التي تسهم في توظيف مواطن كوري، مع أهمية محافظة المصنع على نسبة المواطنين الكوريين ما دام قائماً، وقد يقول القارئ: لا توجد لدينا كفاءات مدرَّبة!، نعم ولا خلاف في ذلك، وهذا عتب على مؤسسة التدريب التقني والمهني التي تصرف لها المليارات من الميزانيات، ولكن المخرجات ليست بالمستوى المطلوب، فخريجو الكليات التقنية يواجهون صعوبة في التوظيف، والسبب الرئيس أنهم لا يمتلكون خبرة في اللغة الإنجليزية، وأن مستوى التعليم منخفض، بينما تتنافس المؤسسات والشركات على استقطاب خريجي المعاهد والكليات التابعة للهيئة الملكية، فيا ترى، متى تتعلم المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني هذا الإجراء الحيوي المهم من جارتها الهيئة الملكية؟
ما أريد قوله هنا: إن الاستثمار الأمثل لدول مجلس التعاون اليوم هو الاستثمار الداخلي في الصناعة، لماذا؟: لأن الصناعة تعطي قيمة مضافة للاقتصاد الوطني، تسهم في حل مشكلة البطالة، وترفع من مستوى المجتمع بشكل، ونرى اليوم أن هناك توسعات في بعض شركات سابك لدعم التوجه الوطني لإنشاء صناعات جديدة مثل: صناعة السيارات، وكل ما يتعلق بهذه الصناعة من أمور.
أين نستثمر؟ كدول، أعتقد أن الاستثمار الآمن والاستثمار الداخلي - وليس الاستثمار الخارجي - في مجال الصناعة وتنمية الاختراعات وكذلك مجال الأمن الغذائي وتأسيس شركات هو الاستثمار الأمثل في هذه الحالات التي يشارك بها المواطن ليستفيد من خيرات هذه الدول.
أما ما يخص البنوك والفوائض في حساباتها، لا بد من تحرك هذا القطاع نحو تسهيل التمويل لتقف عجلة الاقتصاد والتنمية، إذ لا يزال هذا الجانب معطلاً محبطاً منذ الأزمة المالية الأخيرة، ولا نرى أي مشاريع تقام أو استثمارات، تحت ذريعة نحفظ حقوق المساهمين، وهذا محل اتفاق، لكن من الممكن حفظ الحقوق بقوانين واضحة ودقيقة.
يجب أن يكون عام 2012 فترة مناسبة لترتيب البيت الداخلي لجميع دول الخليج من الناحية الاقتصادية، ومنها وضع قوانين جاذبة للاستثمار تضيف قيمة مضافة إلى الناتج القومي، ولا يكون الاعتماد الكلي على النفط لتكون دول الخليج مثل ألمانيا في الصناعة، ومثل بريطانيا في قوة القانون، فالمستثمر يريد قانوناً واضحاً، وعوائد وموارد كلها متوافرة في دول الخليج، ونحتاج إلى القليل من القوانين التي تنظم العمل وجودة في مخرجات التعليم، وتبتعد عن البيروقراطية، نحصل على خارطة طريق واضح لاستثمار آمن وقيمة مضافة للاقتصاد الوطني.