خدمات الإسكان .. بقية من حديث
الأخ صالح بطيش أحد القراء الذين يكرمونني بقراءة مقالاتي ويتفاعلون معها بالتعليق بين الفينة والفينة. ويبدو أن حديثي عن أزمة خدمات الإسكان في مقالي السابق لم يرق لهذا القارئ الكريم، وبالتأكيد أن رأيه هذا لم يأت نتيجة لتصادف تشابه اسمه مع اسم بطل القصة التي سردتها في ذلك المقال، لكنه في رأيي يعبر عن ثقافة عامة تنظر إلى قضية الإسكان على أنها قضية سد النقص في الوحدات السكنية وليس على أنها قضية صناعة متكاملة تعاني مشكلات محورية في هيكلها العام تستند إلى خلفيات تاريخية وجذور عميقة من الخلل في الآليات والأداء والتعاطي الشامل. وفي رأيي المتواضع ، فإن أزمة خدمات الإسكان أسهمت بشكل مباشر وفاعل في مفاقمة هذه الأزمة نتيجة القصور الكبير في الممارسة الاحترافية لهذه الخدمات، وافتقار سوق الإسكان إلى اكتمال هذه المنظومة نتيجة غياب بعض هذه الخدمات عن هيكل الصناعة. وحديثي اليوم يسعى إلى إبراز أوجه هذا النقص وأثره في مجمل القضية وواقع القطاع برمته، عسى أن يسهم في تطوير فهم حقيقي لهذه المشكلة بما يسهم في معالجتها معالجة جذرية فاعلة على المدى الطويل.
قلت في مقالي السابق إن خدمات الإسكان يمكن تعريفها بأنها منظومة الخدمات التي تقدمها جهات تخصصية مختلفة لإتمام عملية تملك المسكن. وأوضح اليوم أن هذه المنظومة تشمل خدمات الوساطة والتسويق والتثمين والفحص الهندسي والتأمين والضمان ووساطة التمويل والمساندة القانونية، وكل هذه الخدمات تشكل عناصر مهمة في عملية شراء المسكن. وفي سوق الإسكان السعودي يتم تقديم بعض هذه الخدمات بمستوى لا يرتقي إلى الاحترافية المطلوبة بما يحقق فعاليتها في هذه العملية، فيما يغيب البعض الآخر غيابا تاما عن هذه السوق. فخدمات الوساطة والتسويق والتثمين يتم تقديمها من قبل مكاتب عقارية مهلهلة تنتشر في شوارع مدننا انتشار النار في الهشيم، وتمارس من قبل أفراد لا يملكون المهارات التخصصية والوسائل التقنية اللازمة لتحقيق الاحترافية المطلوبة فيها. كما أن تطبيق مبدأ عمولة السعي كنسبة من قيمة الصفقة كأساس لتحديد أتعاب خدمات الوساطة والتسويق يخلق نوعا من تعارض المصالح الذي يصبح معه الوسيط ممثلا للبائع عوضا عن أن يكون ممثلا للمشتري يحافظ على مصالحه ويحميه من المخاطر التي تحيط بالصفقة، ويجعل الوسيط أكثر حرصا على إتمام صفقة الشراء بأعلى قيمة ممكنة حتى يعظم عمولته من هذه الصفقة. إن الواقع الذي نراه في هذا القطاع يبرز بوضوح كثيرا من الممارسات التي يقوم فيها هؤلاء الوسطاء بإخفاء أي معلومات عن الوحدات السكنية التي يسوقونها والتي يمكن أن تؤثر سلبا في قرار المشتري، وهو ما يعد شكلا من أشكال الغرر الذي تحاربه الشريعة، خاصة أن الأغلبية الكاسحة من هذه الوحدات قد تم بناؤها بجهود فردية من المواطنين، وليس من قبل شركات التطوير الإسكاني المتخصصة، التي تغيب تماما عن هيكل سوق الإسكان في المملكة، وهو ما جعل هذه الوحدات تفتقر إلى معايير الجودة، وتعاني كثيرا من التضخم في التكلفة الناجم عن الهدر في المواد والوقت والجهد الناجم عن جهود التطوير الفردي، وتفتقر إلى التوثيق الهندسي لمكونات البناء، التي تشكل الأساس الحقيقي والاحترافي لتحديد قيمة الوحدة السكنية.
إن هذا الواقع يصبح أكثر فداحة في ظل الطريقة التي تقدم بها خدمات التثمين التي تتم استنادا إلى البيوع السابقة ومعدلات الأسعار في المنطقة وليس إلى القيمة الحقيقية للوحدة السكنية. أبسط مثال على حجم الخلل الذي يمكن أن ينتج عن هذا الواقع هو ما فعله رب الأسرة الذي اشترى مسكنا في أحد أحياء الرياض بمبلغ 900 ألف ريال، ثم قام ببيعه بيعا صوريا لزوجته بمبلغ ثلاثة ملايين ريال دون أن يحدث في المسكن أي تغيير أو تطوير، وأصبحت بذلك القيمة الموثقة لهذا المسكن تعادل أكثر من ثلاثة أضعاف قيمته الحقيقية التي اشتراه بها في الأصل، وأصبحت بذلك هذه القيمة مؤشرا مزيفا ومضخما لقيمة الوحدات السكنية في ذلك الحي. هذا النموذج من الممارسات الهوجاء وغير الاحترافية التي تتم بعيدا عن أعين الرقابة والتنظيم تسهم بشكل كبير في هذا الخلل الذي نعيشه في أسعار الوحدات السكنية، وربما يكون هو أحد أكبر أسباب هذا التضخم المزعج الذي نراه في هذه السوق، كيف لا والمجال مفتوح للجميع ليقوم كل بوضع أي رقم يريده لمسكنه، حتى لو كان هذا الرقم بعيدا عن القيمة الحقيقية لذلك المسكن.
إن الدور الذي قامت به البنوك التجارية في هذا المجال لهو دور ملموس كان له أكبر الأثر في مفاقمة المشكلة حتى وصلت إلى ما وصلت إليه. فالبنوك التجارية في مسعاها لتعظيم محافظها الموجهة للتمويل العقاري مارست كثيرا من التساهل في أسس التثمين العقاري، وصارت تكتفي بتقارير رثة بسيطة تضع سعرا للوحدة دون تحليل لهذا السعر، ودون تقييم حقيقي لحالة الوحدة السكنية وقيمتها الحقيقية. هذا الخلل نتج عن الرؤية الخاطئة لدى البنوك لعمليات التمويل العقاري ومعاملتها على أنها عمليات تمويل تجاري تقليدية تستند إلى ضمان تحويل الراتب وليس إلى قيمة الوحدة التي يتم تمويلها. وهي بذلك تقوم في حقيقة الأمر بتحديد مبلغ للتمويل يستند إلى دخل المشتري وقدرته الشرائية، ولا تكترث في النتيجة بقيمة الوحدة وإذا ما كانت قد ضخمت بفعل تعارض المصالح الذي يطبع دور الوسطاء العقاريين. هذا الواقع برمته أسهم في تضخيم أسعار المساكن، وفاقم من حجم المشكلة، خاصة في ظل تأخر صدور أنظمة الرهن العقاري الذي كان يؤمل أن تؤسس لصناعة تمويل عقاري محترفة بدلا من التمويل التجاري المكلف الذي تمارسه البنوك التجارية.
أكمل حديثي في المقال المقبل ــ بإذن الله، وفيه سأتحدث عن الخدمات الغائبة عن سوق الإسكان في المملكة، والأثر الناجم عن هذا الغياب في واقع السوق وصلب المشكلة.