أبعاد الخلاف حول التمويل الأجنبي في مصر

انقضّت قوات الأمن والجيش على عدد من المنظمات الأهلية المصرية والأجنبية بعد أشهر من الهمس حول التمويل الأجنبي لأفراد ومنظمات تعمل في مصر بطرق مشروعة وغير مشروعة، هدفها زعزعة استقرار مصر والنيل من أمنها وسلامتها، وإزاء هذا الهمس الرسمي كانت مطالبات مُلِحَّةٌ بالكشف عن هؤلاء وتطبيق القانون في حقهم، وبعد أشهر بدأت حملة دهم عليهم. أثارت الحملة ردود فعل عنيفة، خاصة من جانب واشنطن، وقيل في ذلك إن واشنطن حرضت دولًا عربية على عدم تقديم الدعم المالي لمصر عقوبة لحكومتها؛ لأنها لم تمتثل لطلبات أمريكية، منها إسناد منصب رئيس الوزراء في مصر لمحمد البرادعي المرشح المحتمل لرئاسة الجمهورية، والهدف من توليه المنصب فيما يتردد هو تحجيم التيار الإسلامي، الذي اكتسح الساحة السياسية في مصر، فلما عُيِّن رئيس وزراء آخر انهمرت التهديدات الأمريكية، ما جعل مداهمة هذه الجمعيات، كما تقول إحدى المجلات على غلافها، تحديًّا وضربة للولايات المتحدة.
موضوع التمويل الأجنبي للجمعيات الأهلية موضوع قديم متجدد، وسينطوي على الكثير من المسائل التى تجب تسويتها بِرَويِّة وتقنين أوضاعها. ذلك أن العيب ليس في التمويل الأجنبي في ذاته، لكن العيب دائمًا في مدى توافق ما تمارسه مع مزاج السلطة الحاكمة في كل العصور. ففي عصر عبد الناصر رفضت المعونة الخارجية، كما رفضت فكرة إنشاء جمعيات أهلية؛ لأن هذه الجمعيات كانت تزاحم السلطة الحاكمة في العمل مع المجتمع، ما دامت الدولة تقوم ببرامج العدالة الاجتماعية. ثم فتح السادات الباب واسعًا أمام هذه الجمعيات، وكان هو عصر ازدهارها في إطار سياسته الانفتاحية على كل الاتجاهات، وازداد ازدهار الجمعيات الأهلية في عصر مبارك، خاصة الجمعيات الأمريكية، بعد أن توسعت الدولة ذاتها في سياسة المعونات الخارجية ما دامت الموارد المصرية قد خضعت في ذلك العصر لأكبر عملية استئثار لها من جانب رجال النظام، فكان الأثر المباشر هو اتساع دائرة الفقر والتدخل الخارجي. ومع ذلك عرفت هذه الجمعيات وأوضاعها بعض التغيرات مع فتح المناقشات حول علاقة المجتمع المدني نفسه بالدولة، حتى صدر قانون الجمعيات الأهلية الذي حظر عليها ممارسة النشاط السياسي، لكن عصر مبارك شهد أوسع عملية خلط بين العمل الطوعي والخيري والأهلي والعمل السياسي بمنظور معين. فكانت الجمعيات الخيرية التي ينشئها أعضاء الحزب الوطني تقدم إعانات شهرية رمزية للفقراء، لكن مقابل أصواتهم الانتخابية على الرغم من ضمان الحزب لأصوات الشعب كله بالتزوير.
إن القضية باختصار هي أن الحكومة لا تستطيع أن تقوم بأدوار معينة لخدمة المجتمع، كما أن المجتمع في حاجة إلى من يسانده لتهذيب بعض تجاوزرات الدولة وكشفها، وهذا هو دور منظمات المجتمع المدني الوطنية، لكن هذه المنظمات تحتاج إلى تمويل وإلى خبرة لا تتوافران في الدولة، فتمتد جسور التعاون بين هذه المنظمات وبين الخارج الذي لديه أهداف تخدم مصالحه، فكيف يمكن تنظيم هذه المسألة ووضعها في قانون ملزم؟
أوضاع مصر الآن لا تحتمل هذه التجاذبات العنيفة سواء بين السلطات المصرية ومنظمات المجتمع المدني، أو بينها وبين الغرب، كما أن المناخ في مصر لا يحتمل المزيد من اتهامات العَمَالة والتخوين، والمطلوب الهدوء وانتصار الحكم الديمقراطي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي