هيئة المهندسين وحديث ما بعد الانتخابات

أعلم مسبقا أن بعض الإخوة القراء سيجيّرون مجمل حديثي في هذا المقال على أنه رد فعل على خسارتي في انتخابات مجلس إدارة الهيئة السعودية للمهندسين التي جرت في الأسبوع قبل الماضي، ولا أعتقد أنني أستطيع إقناعهم بعكس ذلك مهما أقسمت ومهما فعلت. لكنني أرجو أن تصل رسالتي من هذا المقال إلى مسامع من لهم السلطة لتطوير آليات الانتخاب في الهيئة، ليس فقط لضمان إنتاج مجالس إدارة تحقق الفعالية والكفاءة المطلوبتين لتحقيق تطلعات منسوبي القطاع الهندسي، ولكن أيضا لتكون نموذجا يحتذى في بقية المؤسسات المدنية، والتي تمثل هيئة المهندسين الحالة الأولى من بينها جميعا التي تتمتع بميزة الانتخاب لتشكيل كامل مجلس إدارتها، وهي الميزة التي ربما يعود عدم توظيفها بالشكل المطلوب وبالا عليها وعلى أهل القطاع، عوضا أن تكون ميزة يحسدون عليها.
قلت سابقا في مناسبات عديدة أن ثقافة الانتخاب جديدة على مفاهيم أفراد الشعب السعودي، وأن ممارستها لا يتوقع لها أن تنتج تشكيلات مؤسسية حقة بما يغلب عليها من شخصنة في الاختيار تعمد إلى الانتخاب بناء على سمعة المرشح أو مكانته أو قبيلته أو حتى طول لحيته عوضا عن أن تكون موجهة لاختيار المرشحين بناء على مؤهلاتهم وخبراتهم وخططهم وبرامجهم. والمشكلة أن لوائح الانتخابات في هيئة المهندسين أسهمت في ترسيخ هذه الممارسة في إطار بحثها عن العدالة بين المرشحين، كونها حرمت على المرشحين التواصل مع ناخبيهم وتعريفهم ببرامجهم الانتخابية. وأنا لم أستطع أبدا أن أفهم لماذا يطلب النظام من سبعة آلاف ناخب أن يجتمعوا جميعا في مكان واحد للاستماع إلى حديث 70 مرشحا يخصص لكل منهم خمس دقائق فقط للحديث عما سيقدمونه للهيئة، عوضا عن أن يتاح لأولئك الـ 70 مرشحا أن يصلوا إلى السبعة آلاف ناخب كل بطريقته ووفق قدراته الخاصة، خاصة أننا نتعاطى هنا مع فئة يعدها الكثيرون من نخب المجتمع وأكثرها قدرة على قيادة مسيرة التنمية والتطور المجتمعي، ولا يتوقع منها أبدا الابتذال والإسفاف في حملات انتخابية مخلة، كتلك التي شاهدناها سابقا في انتخابات المجالس البلدية.
المشكلة الأخرى في قضية آلية انتخابات هيئة المهندسين أنها لا يمكن أن تحقق الوصول إلى تشكيلة منسجمة لمجلس الإدارة بالنظر إلى أنها تتبع آليات الانتخاب الفردي المؤهل لدخول المجلس بناء على عدد الأصوات التي يحصل عليها كل مرشح. وإذا تذكرنا أن أولئك المرشحين لم يقدموا في الأساس أي برامج انتخابية محددة ومفصلة وواضحة للعيان، فإن هذه الآلية تنتج في الغالب الأعم مجالس إدارة مختلطة الأهواء والاتجاهات تفتقر إلى الانسجام المطلوب بين أعضائها للعمل وفق برنامج موحد يحظى بالإجماع الذي يحقق تضافر الجهود لوضعه موضع التنفيذ بالفاعلية المطلوبة. وقد نادى الكثيرون بتطبيق انتخابات القوائم كبديل عن الانتخاب الفردي لتحقيق هذا المطلب وهذه الميزة الحيوية، خاصة في الوقت الذي بتنا نرى فيه صراعات ومنافسات شخصية بين بعض المرشحين، حتى وصلت إلى حد التخوين والاتهامات بين أعضاء المجلس الواحد، وهي حالة لا أدري كيف يمكن أن تحقق التعاون المطلوب بين أعضاء المجلس، ولا أدري إلى أين ستؤدي بهذه الهيئة المسكينة وهذا القطاع الجريح.
المشكلة الأكبر في وجهة نظري هي في انجراف بعض الأجهزة الحكومية لدعم بعض المرشحين الذين ينتمون إليها عبر وسائل يدور حولها كثير من الجدل بالرغم من مشروعيتها الظاهرية. فالمجلس المنتخب للدورة القادمة من عمر الهيئة سيضم ستة من أعضائه العشرة منقسمين بين شركة أرامكو السعودية والمؤسسة العامة لتحلية المياه المالحة. هذا الواقع لم يأتِ ولا يمكن أن يأتي بمحض الصدفة، وهو يمثل نتيجة مباشرة للدعم الذي قدمته هاتان الجهتان للمرشحين الذين ينتسبون إليهما عبر حشد أصوات المهندسين العاملين فيهما لصالح أولئك المرشحين، وهو ما يتم عبر قيام تلك الجهات بسداد رسوم تسجيل وتجديد عضوية أولئك المهندسين في الهيئة مقابل منح أصواتهم لأولئك المرشحين. أنا هنا لا أتحدث بالطبع عن أولئك المرشحين ولا أتهمهم بعدم الكفاءة، بل إن معرفتي الشخصية ببعضهم تؤكد قدرتهم على بذل جهود مقدرة في إدارة دفة الهيئة. ولكن قبول مبدأ تدخل بعض الجهات، حكومية كانت أو خاصة، لدعم بعض المرشحين في مثل هذه الانتخابات يفقدها النزاهة والعدالة المطلوبة، ويفتح الباب على مصراعيه للسيطرة على المؤسسات المدنية استنادا إلى القدرات المالية أو السلطوية لتلك الجهات. قد يقول قائل إن تلك الجهات إنما قامت بسداد رسوم عضوية مهندسيها دعما لهم للانخراط في أنشطة الهيئة، وأقول لهؤلاء ولماذا لم تفعل ذلك إلا قبيل الانتخابات، وغفلت عن هذا الجهد الخيري طيلة السنوات الثلاث الماضية. ولو أن هذا الدعم كان معلنا وواضحا ومعبرا عن مصلحة الجهاز لأمكن لفهمي المتواضع أن يهضمه ويتقبله ولو على مضض. ولكن أن يقوم جهاز حكومي أو شبه حكومي بصرف مبالغ من ميزانية الدولة لتحقيق مصالح أشخاص من منسوبيها ودعمهم للفوز في مثل هذه الانتخابات، فإنني وغيري الكثيرون عاجزون عن فهم هذه المعادلة ناهيك عن تقبلها. وإذا كانت هيئة مكافحة الفساد تبحث عن حالات تضع يدها عليها لتثبت جديتها في القضاء على مشاهد الفساد المستشري في عالمنا، فإنني أضع أمام أعينها هذه الحالة التي أعدها من أكثرها جلاء وحدّة.
أرجو ألا يشعر أحد بالامتعاض من حديثي هذا، فهو لا يروم إلا المصلحة العامة، ولا يحمل أي اتهام لأحد بعينه. كل ما أريده أن ينال القطاع الهندسي حظه من الاهتمام والتقدير، عوضا عن أن يكون حقل تجارب تعصف به المصالح الخاصة والأهواء المتعارضة حينا، ونقص الكفاءة وقلة الحيلة حينا آخر. ولأن هذا الحديث لن يعدو أن يكون فضفضة على صفحات هذه الجريدة، فإنني أزف التهنئة خالصة للفائزين في انتخابات مجلس إدارة هيئة المهندسين في دورتها القادمة، راجيا الله العلي القدير لهم التوفيق والسداد، ومتمنيا عليهم أن يكونوا على قدر المسؤولية وعلى قدر ثقة أهل قطاع حملوا مسؤوليته ولو رغما عنهم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي