عندما يصبح الدين تجارة
أكتب هذا المقال تحت تأثير ما يمكن وصفه بالشعرة التي قصمت ظهر البعير. والشعرة كانت سؤالاً طرحه عليَّ أحد الأصدقاء، وحرَّك به مشاعر كامنة في نفسي حول العديد من المشاهد التي رأيتها ويراها الكثيرون حولنا، التي تشكل في قناعتي حالة صارخة وفاضحة من المتاجرة بالدين الإسلامي الحنيف، واللعب على مشاعر الناس واستغلالها لتحقيق مكاسب مادية دنيوية ترخص مهما عظمت أمام عظمة الدين وسمو مكانته. سؤال هذا الصديق كان عن الكيفية التي تم بها تحديد حدود منطقة الحرم في المدينة المنورة، وعن الفارق في معدلات أسعار العقارات في هذه المدينة بين تلك الواقعة داخل حدود الحرم وخارجها، وذلك بحكم انتمائي إلى هذه المدينة المشرفة. قلت لصديقي هذا إن منطقة الحرم في المدينة المنورة حددها رسول الله ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ في حديثه الشريف بأنها تلك الواقعة ما بين عير إلى ثور، وفي حديث آخر ما بين لابتيها، أي المدينة المنورة. وقلت له أيضًا إن هذا التحديد إنما يرسم وصفًا عامًّا لحدود منطقة الحرم، وهو وصف لا يمكن أن يُرْسَم له خط محدد بالمسطرة كما يراه سكان وزوار المدينة المنورة بتلك العلامات التي وضعت على الطرق في مكة المكرمة والمدينة المنورة. والمشكلة أن هذا التحديد القطعي الصارم قد تم توظيفه بشكل مبتذل وسافر؛ لينعكس على أسعار العقارات في المدينتين المقدستين، وأصبح وسيلة من وسائل المتاجرة بالدين. وأنا لا أستطيع أن أفهم كيف يمكن لعقارين متجاورين ويتمتعان بالمواصفات والمعايير ذاتها، ويفصل بينهما ذلك الخط الرفيع الذي يحدد حدود منطقة الحرم، أن يتفاوت ثمنهما تفاوتًا كبيرًا يصل إلى حد التضاعف أضعافًا عديدة. ضربت لصديقي هذا مثالاً عن هذا الخلل في أحد مشاريع المدينة المنورة، والذي يقع جزء منه داخل منطقة الحرم وجزء خارجه، وكيف أن أسعار المساكن وقطع الأراضي المتماثلة تتفاوت أثمانها تفاوتًا كبيرًا استنادًا إلى مواقعها من منطقة الحرم، وهو ما أَعُدُّهُ ـــ لَعَمْرِي ـــ ظلمًا فادحًا وشكلاً مبتذلاً من أشكال المتاجرة بالدين ومشاعر الناس وقناعاتهم.
غادرني صديقي بعد هذه الإجابة التي يبدو أنها أحدثت في نفسه شيئًا من الصدمة والتشويش، ووجدتني بعدها أسترجع صورًا أخرى من صور هذه الممارسة المخلة الظالمة، وتذكرت مشهد العقارات الشاهقة المطلة على الحرم المكي الشريف، خاصة مشهد أبراج البيت التي سمت شاهقة لتعلو حتى على مآذن الحرم، وتوقع في نفوس طواف بيت الله الحرام شعورًا خانقًا بسطوة المادة على روحانية المكان. ونحن نعلم جميعًا كيف أن أسعار الغرف الفندقية في تلك المباني المحيطة بالحرم تتفاوت بحسب إطلالتها، فالغرف التي تطل على الكعبة المشرفة تعلو أسعارها على تلك التي تطل على الحرم، وتلك بدورها تعلو على أسعار الغرف التي تطل على جهات أخرى، وهَلُمَّ جَرَّا، حتى أصبح التمتع بالنظر إلى الكعبة المشرفة حكرًا على الأثرياء وعِلْيَةِ القوم. قد يقول قائل إن هذا الأسلوب يجري اتباعه في كل أنحاء العالم، وأن أسعار الغرف في فندق ذي واجهة بحرية مثلاً تتفاوت بحسب إطلالتها على البحر. ومع أن هذا القول صحيح ومفهوم بالعموم، إلا أن تطبيق هذا الأسلوب على الحرمين الشريفين يتعارض مع قدسيتهما الدينية، ويوظفهما لتحقيق مكاسب مادية على حساب مشاعر الناس وحرصهم على التمتع بالنظر إلى هذين الموقعين المشرفين، وهو ما أعده أيضًا شكلاً من أشكال المتاجرة بالدين.
الصور التي استرجعتها في ذاكرتي من صور المتاجرة بالدين لم تكن تتعلق فقط بالشأن العقاري والسياحي، بل شملت أيضًا صورًا من صور المعاملات المالية اليومية في حياة الناس، ومنها على سبيل المثال معاملات البيع بالتقسيط. وبعض شركات التقسيط والبنوك التي تصف عملياتها بالإسلامية، تقوم بعمليات البيع بالتقسيط بتكاليف تفوق مثيلاتها التي تصنف على أنها عمليات تمويل تقليدية. هذا الفارق في التكلفة الذي يتحمله المتعاملون استنادًا إلى حرصهم على نقاء معاملاتهم أَعُدُّهُ شكلاً من أشكال الاستغلال والتربح والمتاجرة بالدين، والجهات التي تمارس هذا الأسلوب تعمد إلى تقديم عروض مغرية تضرب على وتر الدين وحرمانية معاملات الغير، وتدعمها بختم اعتماد الهيئة الشرعية لتكسبها صفة النقاء والطهر، في الوقت الذي يدور كثير من الجدل الفقهي حول صحة التكييف الشرعي لهذه العمليات، خاصة تلك التي تتبنى مفهوم التورق أساسًا لهذا التكييف. أحد المستشارين القانونيين في أحد البنوك الإسلامية برر هذا الارتفاع في تكلفة عمليات التمويل الإسلامية بأنه يتطلب جهودًا إضافية في ترتيب العقود والمعاملات والوثائق الخاصة بهذا النوع من العمليات، إضافة إلى ارتفاع نسبة المخاطر المترتبة عليها فيما يتعلق بتعثر السداد ومنع تطبيق غرامات التأخير عليها. وأنا في الحقيقة لم أستطع أن أفهم أو أقبل هذا التبرير، إذ إن حرص المتعاملين على البعد عن الوقوع في المعاملات المحرمة شرعًا يجب ألا يوقع عليهم تحمل أعباء وتكاليف إضافية ناتجة عن تعقيدات مفتعلة في هذه المؤسسات، بما فيها تكاليف أجور أعضاء الهيئات الشرعية التي يدفعها أولئك المتعاملون.
كنت قد أشرت في مقال سابق إلى أن بطاقات الائتمان الإسلامية تبلغ تكاليفها السنوية أكثر من ثلاثة أضعاف تكاليف بطاقات الائتمان التقليدية، فهل عجزت المصرفية الإسلامية عن معالجة هذه المشكلة، وهل يعقل أن يتحمل الناس مثل هذه الأعباء المرتفعة ثمنًا لحرصهم على الحلال والبعد عن الحرام.
خلاصة القول، ديننا الإسلامي دين السماحة واليسر، وما نشهده من حالات صارخة من المتاجرة بالدين تتطلب وقفة حاسمة وحازمة من هيئة كبار العلماء والحكماء من رجال الدين في هذا البلد الذي يضم بين جنباته أقدس بقاع الأرض، وشهدت أرضه انطلاق أعظم الرسالات السماوية. أما أن يكون هذا البلد موطنًا لاستغلال الناس باسم الدين، وخداعهم وكسب ثقتهم لتحقيق مكاسب مادية رخيصة، فهذه ـــ لَعَمْرِي ـــ مصيبة كبرى، وواقع يتنافى مع مبادئ الدين الحنيف، ويتعارض مع توجهات قيادة الدولة التي رفعت منذ نشأتها راية الإسلام، وجعلتها رمزًا لها يرفرف خفاقًا تعبيرًا عن رفعة الدين وتطبيق تعاليمه ومبادئه في هذا البلد.