البرامج الحوارية تنتقل من النقاش إلى العنف

البرامج الحوارية تنتقل من النقاش إلى العنف

ما حدث في بعض القنوات العربية خلال الأسبوع الماضي يمكنه أن يكون ملهما لعدة أفكار جديدة، مثلا لن تحتاج محطة فضائية سوى أن تفتح كاميرات إضافية على أحد استوديوهاتها الخاصة المشغولة بتسجيل حلقة حوارية لأن هذا سيجعلها أيضا ترصد حالة تتحول فيها طاولة النقاش إلى حلبة والضيوف إلى ملاكمين محترفين الأمر الذي يعني عمليا الحصول على مقطع ''أكشن'' يحظى بأعلى نسب المتابعة والتحميل في اليوتيوب، في وضع آخر.. سيكون بإمكان محطة فضائية أخرى أن تحظى بفرصة نادرة و''حصرية'' للحصول على حدث لا يكتفي أن يكون خبراً خاصاً بها بل إنه يوفر عليها كذلك عناء إرسال مراسلين لتغطيته فالخبر في هذه الحالة يجعل من القناة نفسها مسرحا له، وبينما ينهمك المحررون والمذيعون بمتابعة أخبار الاعتداءات في العالم سيكون عليهم أن يكتشفوا فجأة أن ثمة أمرا يعنيهم مباشرة على هذا الصعيد، وأن بعضهم قد تحوّل إلى أهداف مشروعة لاعتداء محتمل فيما تحوّل بعضهم الآخر إلى شهود عيان محتملين أيضاً.
المتابع لمشهد الأحداث خلال سنوات ماضية لن يجد نفسه أمام ظاهرة جديدة وهو يرى القنوات تتحول من خانة الرصد الإعلامي إلى أن تصبح مسرحا لصراع أو طرفا في قضية، غير أن أحداث الأسبوع الماضي تحديدا أثارت عددا من الأسئلة حول الثقافة الذهنية التي يمكنها أن تنتج حالة اشتباك بالأيدي داخل برنامج حواري وكذلك حول التعامل الإعلامي مع موقف كهذا وما إذا كان التفكير في وجود افتعال لحالة التوتر تفكيرا وارداً في ضوء بحث قناة ما، أو مذيع ما .. عن تحقيق الإثارة لبرنامج معين، وفيما بعد سيكون علينا التساؤل إن كانت هذه النتائج بالفعل هي ما يجب الوصول إليه .. سواء ارتبطت برد فعل جماهيري غاضب يتم التعبير عنه بالتوجه إلى مقر القناة بدوافع ليس من ضمنها طبعا توجيه الشكر إلى تلك القناة، أو سواء تعلقت بصراع عنيف بين ضيفين قررا بعد نزال فكري حاد أن يحلا مشكلتهما على الطريقة ذاتها التي يمكن استخدامها فيما لو تواجها في الشارع مثلا، هي فقط تختلف هنا لأنها منقولة على الهواء مباشرة أمام مشاهدين محبوسي الأنفاس ومذيع لا يبدي أي محاولة ''حقيقية'' لفض النزاع.
حول تحول حلقات النقاش إلى ''حلبات'' وتخلي البرامج الحوارية والمتابعة الجماهيرية عن ''الفكرة المقنعة'' كعنصر للفصل في عملية الحوار والتلقي، يصبح تحليل المشكلة تصرفا مشروعاً، ولهذا تحدثنا إلى الإعلامي عبد العزيز العيد مقدم البرامج في التلفزيون السعودي، عضو هيئة الصحفيين سابقا الذي انتقد بشدة الطريقة التي يعتمدها أحد البرامج الحوارية حيث يقوم أصلا على فكرة المواجهة بين اتجاهين، ويضيف ''لو نظرنا إلى أغلب الشخصيات التي تستضاف في هذا البرنامج، التي تنجرف من حالة النقاش الفكري إلى الاعتداء الجسدي فسنجد أنها شخصيات ذات طابع صدامي ومشروعات يمكن وصفها بـ''الصراخية'' وهي حالة مثالية بالنسبة لمذيع يتولى تأجيجها حتى تصل لأبعد منطقة من التوتر، وبشكل يخرجه عن دائرة مدير الحوار ويحوّله إلى أشبه بالحكم المتواطئ مع الخصمين!''
المذيع العيد لا يرى أن حالة الحوارات العنيفة تمثل ظاهرة في الفضائيات العربية ولا يعتقد بانتقال هذه العدوى من خلالها، وإن كان لم يخفِ استغرابه من تناقض الرأي والتصرف لدى أشخاص يستهجنون البرامج التصادمية ورغم ذلك يحرصون على متابعتها متسائلا''هل يستمتع هذا الجمهور - والذي يتضمن كذلك عددا من النخب - بمشاهدة حالة الخروج عن الطور وافتقاد ميزان العقل بشكل يقود إلى الاعتداء الحسي والتصرف والكلام غير الموزون ؟''.
في جانب آخر يرجع الإعلامي عبد العزيز العيد حدوث بعض حالات الاحتجاج الجماهيري على مقار قنوات الفضائيات إلى أن بعض المحطات الخاصة تعتمد أحيانا على توجهات شخصية أو فكرية معينة قد تقود لاستفزاز المشاهدين، مشيرا أيضا إلى احتمال أن تكون هذه التوترات نابعة من رغبة القناة أو صاحبها في الشهرة السريعة، قبل أن يختم الوجه التلفزيوني المعروف حديثه لـ ''الاقتصادية'' باعتبار أن حالة التوتر والعنف في الفضائيات تمثل نتيجة تطبيقها فهماً خاطئا لفكرة ''الإثارة الإعلامية'' سواء من خلال إدارة حوارات تعتمد على الصوت العالي أو استضافة متحدثين يعزفون على وتر استفزاز المتلقي، منوهاً إلى أن هذه الأساليب لا تمثل قاعدة في الإعلام الفضائي العربي، لاسيما في ظل وجود عدد من البرامج العميقة التي لا تخرج عن حدود اللباقة والهدوء في تقديم مادة خبرية أو فكرية أو حوارية راقية يخرج منها المشاهدون بحصيلة معرفية وثقافية ملموسة.

الأكثر قراءة