تنمية المناطق.. بين الوزير والحاكم الإداري
مع أجواء ''مهرجان الجنادرية'' واحتفالات كل منطقة بتراثها وتقاليدها، تلوح ''تنمية المناطق'' في الذهن، تتهادى مع تموجات فرسان العرضة ومرددي الأهازيج، فنستعيد الأمس القريب حين طرح منتدى الرياض الاقتصادي (ديسمبر 2011) توصيات منها:
(1) تحديد جهاز حكومي معني بإدارة التنمية المتوازنة في المناطق، و(2) تحديد معايير التنمية المتوازنة داخل كل منطقة، بما يحقق التوازن والعدالة وفقا للميزات النسبية والكثافة السكانية في المدن والقرى والهجر في المنطقة، و(3) تطبيق مفهوم الإدارة المحلية واللامركزية على مستوى المحافظات في المناطق، و(4) دعم وتحفيز برامج توظيف الموارد والأنشطة الاقتصادية في المناطق الأقل نموا بناء على المعايير المركبة للقطاعات والمناطق وفقا للمزايا النسبية لكل منطقة.
ولأن المنتدى يعتزم رفع توصياته إلى المجلس الاقتصادي الأعلى، فأود استبدال التوصية الأولى ببدائل أخرى، مؤكدا التأييد الكامل للتوصيات الثلاث الأخيرة التي تكفل فعلا تحقيق التنمية المتوازنة في المناطق.
في البدء، لا أعتقد أننا في حاجة إلى إنشاء جهاز حكومي جديد في ظل التضخم البيروقراطي الذي يشهده القطاع العام، ولسنا في حاجة إلى إنشاء وزارة للإدارة المحلية كما يدعو لها البعض. إننا لا نحتاج سوى ''إعادة هيكلة'' لأنظمتنا وأساليبنا وممارساتنا المالية والإدارية، والانعتاق من مغارات التقليدية إلى أفق الإبداع، فهذا هو الدافع لعجلة التنمية المتوازنة في المناطق.
ماليا، يمكن تحقيق التنمية المتوازنة عن طريق إعادة هيكلة ميزانية الدولة على أساس احتياجات المناطق وليس احتياجات الوزارات. ولعل هذا يدفعنا إلى التحول من موازنة البنود (التقليدية) إلى موازنة البرامج أو موازنة الأداء ، كما ينادى بذلك خبراء الاقتصاد، وعلى رأسهم الدكتور عبد الرحمن بن راشد العبد اللطيف، مساعد ممثل المملكة لدى صندوق النقد الدولي سابقا في مقاله ''هل نظام الموازنة الحالية صالح لاقتصاد بحجم اقتصاد السعودية؟'' (''الاقتصادية'' - العدد 6651).
كما يمكن إعادة النظر في تحصيل الإيرادات، ففي الدول التي تفرض ضرائب على مواطنيها، تذهب ضريبة العقار لخزانة البلدية (المدينة)، وضريبة المبيعات إلى خزانة المنطقة (الولاية)، وضرائب الدخل والشركات إلى خزانة الدولة. ومن هذا المنطلق، يمكن اتباع الطريقة ذاتها بدلا من أن يذهب كل الدخل - من رسوم الجوازات إلى عوائد النفط - إلى جهة مركزية في الدولة (وزارة المالية)، حيث يمكن أن يذهب شيء من الإيرادات التسعة (الموضحة في نظام إيرادات الدولة) إلى ''خزانة المنطقة''، كرسوم البلديات وغراماتها.
وإذا أعدت الميزانية على أساس الاحتياجات التنموية في كل منطقة، فهذا يعني أن الأرقام ستبنى على أرقام وليس على ''اعتبارات أخرى''، فالميزانية ترصد بناء على البرامج التنموية وعدد من المؤشرات التي وضعتها وزارة الاقتصاد والتخطيط لقياس مستوى النمو السكاني والتعليم والصحة والأنشطة الأخرى داخل المنطقة، فلغة الأرقام إذا قامت على أسس منهجية وسليمة لا تكذب ولا تتحيز مع أو ضد أحد، وهذا قد يحفزنا إلى إعداد خطط التنمية الخمسية على أساس متطلبات ''المناطق'' وليس ''القطاعات''.
إداريا، المناطق تعاني تحديات عدة، أبرزها تعدد المرجعيات وقلة الصلاحيات أو تضاربها، ولا سيما إذا علمنا أن لدينا 23 وزارة و13 منطقة إدارية، وفي كل منطقة فرع لكل وزارة (299 فرع وزارة داخل السعودية!)، ولذلك نجد أن بعض مديري العموم يعانون حرج المرجعية (ازدواجية الارتباط) لأنهم يقعون في نطاق رمادي، فلا يعلمون هل يرتبطون بالحاكم الإداري (أمير المنطقة) أم بمسؤول في الوزارة؟
ولنكن صادقين، أيهما أكثر اطلاعا على احتياج المنطقة من عدة زوايا؟ الوزير من مكتبه في الرياض الذي بينه وبين مدير عام الفرع عدة مستويات إدارية.. أم الحاكم الإداري الذي يعمل من قلب الإمارة وليس بينه وبين ذلك المدير حجاب؟
شكل آخر من أشكال التداخل الإداري في المناطق، يتمثل في التشابك في مسؤوليات وصلاحيات ''مجلس المنطقة'' المرتبط بوزارة الداخلية، و''المجلس البلدي'' المرتبط بوزارة الشؤون البلدية والقروية، ولهذا سررت أخيرا عند مبادرة إحدى لجان مجلس الشورى بطرح مقترح ينظم العلاقة بين تلك المجالس، لكن الفرحة تلاشت ما إن اتضح أن المقترح ينادي بـ ''دمج مجالس المناطق مع المجالس البلدية'' وليس العكس!
تنمويا، سنأخذ الصحة كمثال، وسنرى أن وزارة الصحة التي تشرف على 196 مستشفى في السعودية تعتزم إلغاء ودمج 43 في المائة من مستشفياتها، فهل هذا تم بالتنسيق مع الحكام الإداريين؟ في منطقة مثل ''الجوف'' يتوافر فيها ستة مستشفيات فقط لا تستوعب إلا 842 سريرا، ولكم أن تتخيلوا صفوف الانتظار التي لا يشق غبارها إلا مواكب المسافرين إلى الأردن للعلاج.
لنترك الجوف وننظر إلى منطقة الرياض وتحديدا ''العاصمة'' التي اعتبرها معهد بروكنجز الأمريكي Brookings في دراسته الأخيرة (2001) ثاني أسرع مدن العالم نموا من بين 200 مدينة، سنلاحظ أنه لا يتوافر فيها سوى 44 مستشفى تابعة للوزارة تستوعب مجتمعة 7171 سريرا فقط، رغم أن سكان مدينة الرياض اقتربوا من سبعة ملايين!
إن كنا نعتزم تحقيق تنمية متوازنة في المناطق، فيجب أن نتخلص من الأطر التقليدية لإدارة البشر والمال، وأن نتجه إلى اللامركزية الإدارية والمالية، وأن نمنح الحاكم الإداري صلاحيات أوسع تتماشى مع مسؤولياته الجسيمة، حيث تمكنه من إدارة ''حكومة محلية'' (حكومة مصغرة) تعزز التنمية داخل المنطقة بعيدا عن بيروقراطية الوزارات.
إنه المهرجان.. وهي التنمية.. مشاهد الوطن ومباهج أبنائه.. خيرات البر والبحر: تمور الوسطى، زيتون الشمال، فاكهة الجنوب، نفط الشرق، معادن الغرب، وسنتساءل: من الظافر بتحقيق التنمية.. الـ 23 وزيرا أم الـ 13 حاكما إداريا؟