رسوم الأراضي البيضاء.. حان وقت التطبيق
استمعت باهتمام إلى حلقة يوم الأربعاء الماضي من البرنامج الإذاعي الثانية مع داود الذي يقدمه الإعلامي المبرز داود الشريان. وهي الحلقة التي خصصها لمناقشة موضوع فرض رسوم الأراضي البيضاء وأثره في سوق العقار. هذه الحلقة شهدت مشاركات عديدة من نخبة من الكتاب والمتخصصين في الشأن الاقتصادي والعقاري، وازدحمت بالعديد من الأسماء اللامعة التي لم أتمكن معها من الحصول على فرصة لأدلي بدلوي فيها حول هذا الموضوع، فرأيت أن أسطر في هذا المقال خلاصة ما أردت قوله حينها، وأن أعلق أيضا على بعض ما استمعت إليه من بعض المعارضين ممن تحدثوا في هذا اللقاء. وفي المجمل، فإن هذه الحلقة من هذا البرنامج الرائد أبرزت بجلاء كم التأييد الجارف لحتمية فرض الرسوم على الأراضي البيضاء كوسيلة مهمة لمعالجة مشكلة ارتفاع أسعار الأراضي التي تعد العقبة الأبرز في سبيل حل مشكلة الإسكان في المملكة. كما أنها أبرزت أيضا حالة من تعارض المصالح التي عبرت عنها آراء المعارضين الذي كانوا في العموم من أهل القطاع العقاري، أو ممن ينتمون إلى أنديته ولجانه ومؤسساته. الغريب أن هذا النقاش وهذا الصراع الفكري حول هذه القضية المهمة ما زال الطرف الأهم فيه غائبا عنه، وهو القطاع الحكومي بكل مؤسساته المسؤولة عن إدارة شؤون القطاع العقاري بكل مستوياته واختصاصاته، وهو غياب أخشى معه أن يبقي هذا الحوار حبيس البرامج وصفحات الجرائد، ليكون حوارا أشبه بحوار الطرشان.
قلت إن معظم المتحدثين في تلك الحلقة من البرنامج أجمعوا على حتمية فرض الرسوم على الأراضي البيضاء، ولخصوا بالعموم كل الأسباب التي تدفع بصحة هذا الرأي، بل وتضعه على رأس قائمة أولوليات القرارات التي يتطلع الجميع إلى تبنيها من جهات التشريع في الدولة. وأنا لا أملك إلا أن أتفق مع هذا الرأي، ومع كل المسببات التي ساقها المتحدثون، بما في ذلك أنها تشكل الوسيلة الأنجع والأوقع لفك احتكار الأراضي وإدخالها في دورة التطوير وإنتاج الوحدات السكنية. الشيء الذي أضيفه في هذا الحديث هو أن هذه المعالجة ليست موجهة ضد أحد بعينه، ولا يجب أن يراها العقاريون سلاحا منصوبا ضد مصالحهم وأرزاقهم. بل على العكس، فإن تخفيض أسعار الأراضي سيعود عليهم بالنفع على المدى الأبعد، إذ إنه سيفتح لهم الأبواب مشرعة للانخراط في مشاريع التطوير والبناء، ومن ثم تحقيق مكاسب مجزية من تفعيل دورة استثمارية إنتاجية مكتملة تعود على كل أركان المجتمع بالخير والرخاء. إن الجهة الوحيدة التي يستهدفها سلاح الرسوم هم أولئك المحتكرون الذين يحتجزون ملايين الأمتار المربعة من الأراضي على مدى سنوات طويلة دون أن يبذلوا شيئا لا في سبيل امتلاكها ولا في سبيل إحيائها وتطويرها، وهم بالمناسبة في معظمهم ليسوا من أهل قطاع العقار ولا ينتمون إليه من قريب أو بعيد. هذا الواقع يفرض الحاجة إلى تأكيد أهمية تبني مفاهيم العدالة في أعلى مستوياتها عند فرض الرسوم على تلك الأراضي، فلا يجب أن يستثنى منها أحد، ولا يجب أن ينجو من لظاها أحد، بما في ذلك الجهات الحكومية التي تملك مساحات شاسعة من الأراضي المسورة دون أية حاجة فعلية لها. كما أن هذا التطبيق يجب أن يكون مصحوبا بآليات فاعلة تضمن له تحقيق الأثر المأمول منه، فيجب مثلا أن يتم فرض وتحصيل هذه الرسوم سنويا وفي وقت محدد دون تسويف أو تأجيل، إذ إن تحصيل هذه الرسوم وقت البيع لن يحقق أية فائدة من هذا الفرض، بل على العكس، سيعود بآثار سلبية على صلب المشكلة عبر تحميل هذه الرسوم على المشتري ومن ثم على المستهلك النهائي. المطلوب أن تكون هذه الأراضي المكنوزة جمرة في يد كانزيها، فإما أن يعمدوا إلى تطويرها والبناء عليها، وإما أن يعمدوا إلى بيعها والتخلص منها للخلاص من أعباء الرسوم المفروضة عليهم.
من جهة أخرى، فإن فرض الرسوم على الأراضي البيضاء لن يكون إجراء كافيا لحل مشكلة ارتفاع أسعار الأراضي، بل يلزم أن يصاحبه حزمة من الإجراءات والخطوات المصاحبة والموازية. من هذه الإجراءات وقف تداول الأراضي الخام، ومنع بيعها إلا بعد التطوير والإحياء. إن هذا الإجراء سيكون له أكبر الأثر في منع ظاهرة المضاربة والتداول في الأراضي الخام، والتي تمثل في رأيي أحد أهم جذور مشكلة ارتفاع أسعار الأراضي، كونها السبب الرئيس وراء تضخيم قيمة الأراضي الخام عبر بناء دورات متعددة من الربحية الزائفة من هذا التداول المتكرر. الشريف منصور أبو رياش، وهو كان أحد المتحدثين في حلقة الأربعاء الماضي، أشار دون أن يقصد إلى هذه المشكلة عندما قال إن العقاري الذي يشتري أرضا خام بسعر 500 ريال للمتر المربع مثلا عليه أن ينفق عليها تكاليف أخرى مقابل التطوير ومد الخدمات ونسب الاستقطاع للخدمات وغير ذلك، متسائلا عن السعر الذي سيبيع به الأراضي بعد ذلك. وأقول للأستاذ منصور وأقرانه من العقاريين إن المشكلة ليست في تكاليف التطوير التي لا مفر منها البتة، بل في الثمن الذي اشتريت به الأرض الخام، وهو سعر الـ 500 ريال في المثال الذي ذكره. فمن أين أتى ذلك السعر، وما القيمة التي تحملها أرض خام فارغة حتى تباع بمثل ذلك السعر. المشكلة أن ذلك الرقم أتى أساسا من تداول تلك الأرض بين المضاربين قبل وصولها إلى المطور العقاري، وهي المشكلة التي يجب العمل على معالجتها وبترها من الأساس إن أردنا حلا فاعلا لهذه المشكلة من جذورها.
خلاصة القول، فرض الرسوم على الأراضي البيضاء حان وقته وأصبح أكثر إلحاحا من أي وقت مضى. والاعتماد على الزكاة الشرعية كوسيلة لمعالجة هذه المشكلة لن يحدث الأثر المطلوب في ظل تفاوت الرؤى الفقهية، حولها واعتمادها على النوايا التي لا يعلمها إلا الله. والجهود التي يقوم بها صندوق التنمية العقاري ببرامجه المبدعة لن تنجح في تحقيق حلم تملك المسكن للمواطنين إن لم تسارع الدولة بوضع الحلول التي تسهم في توفير عنصر الأرض الذي يمثل العنصر الأهم لبناء وتوفير المساكن. وبعد كل هذا الإجماع حول حتمية هذا الإجراء، فما الذي يمكن أن يقنع أصحاب القرار في الدولة بالإسراع في تبنيه وإقراره، أو على الأقل بوضعه على محك الدراسة الجادة بدلا من هذا التجاهل والصمت المطبق؟