كي نحقق حلم الصناعة.. إلى أين نتجه؟
أبو عبد الرحمن رجل من أبناء هذا الوطن، يحتل وظيفة مرموقة في إحدى الشركات الكبرى العاملة في المملكة. ولأن أبا عبد الرحمن قارب الخمسين من عمره فقد بدأ يعمِل فكره في التخطيط لمرحلة ما بعد التقاعد، خاصة بعد أن جمع مبلغا من المال هو تحويشة العمر التي رأى أن يستثمرها ليؤسس نشاطا تجاريا يشغل به نفسه في تلك المرحلة، ويتركه ليكون مصدرا لرزق أبنائه من بعده. بدأ أبو عبد الرحمن يقلب خياراته لتلك المرحلة، واستقر قراره على أن يخوض غمار الاستثمار الصناعي، إيمانا منه بأن هذا المجال يحمل الكثير من الإمكانات والفرص، مستشهدا بكل تلك الشعارات التي تؤكد دوما أن الصناعة هي الخيار الأول لتنويع مصادر الدخل الوطني. جمعتني بهذا الرجل جلسة من جلسات الدردشة الفكرية، فباح لي بمكنونات صدره وخططه المستقبلية، وطلب مشورتي في اختيار الخط الذي يمكن له أن يسلكه، والنشاط الصناعي الذي يمكن أن يحقق له النجاح الذي يرومه. خضت وإياه جولة من النقاش، وهي جولة خرجت منها برؤية رسخت في نفسي ما كنت أعلنه وأقوله في هذه القضية، وهي الرؤية التي سأطرحها في هذا المقال، علها تجد لها من يؤمن بها ويحملها إلى مسار التنفيذ، لتكون سبيلا لتحقيق الحلم الذي أعلنه ملك هذه البلاد.
عندما ننظر إلى الجهات المختصة بإدارة قطاع الصناعة في المملكة نجد أنها تنحصر في ثلاث جهات، الأولى هي وزارة التجارة والصناعة، وهي تقوم بدور المشرع والمنظم والمراقب لهذا القطاع والمؤسسات العاملة فيه. والثانية هي هيئة المدن الصناعية، وهي المختصة بإدارة المدن الصناعية وتوفير الأراضي المخصصة للمصانع وإدارة تلك المدن وما تضمه من مرافق وخدمات. والثالثة هي صندوق التنمية الصناعي، وهو الذراع التمويلية المختصة بتقديم القروض الحكومية الميسرة والمدعومة للمشروعات الصناعية. هذه المنظومة الثلاثية تقوم بأدوار متكاملة لخدمة القطاع الصناعي وتنظيمه وتنميته، لكنها في الوقت ذاته تفتقر إلى حلقة مهمة من حلقات تنمية الصناعة في المملكة، وهي تلك المختصة بخلق فرص الاستثمار الصناعي وطرحها أمام المستثمرين بمختلف فئاتهم وقدراتهم وإمكاناتهم، ومنهم أخونا أبو عبد الرحمن الذي يمثل نموذجا للباحثين عن فرص مجدية في هذا القطاع.
أذكر أن غرفة الرياض التجارية الصناعية كانت قد نظمت قبل فترة معرضا عن فرص الاستثمار الصناعي في المجالات العسكرية بالتعاون مع المؤسسة العامة للصناعات الحربية، وهي التي كانت قد أعلنت في تلك المناسبة فتحها الباب أمام المستثمرين السعوديين للدخول في مجال صناعة المستلزمات وقطع الغيار للمعدات العسكرية للتعويض عن قائمة طويلة من المستلزمات التي يتم استيرادها من الخارج. وعلى الرغم من كم الحماسة التي اجتاحت ذلك الحدث، إلا أن الواقع أبرز عقبة كبرى وقفت حائلا في سبيل تحقيق تلك المبادرة، إذ إن كل من أرادوا الانخراط في هذا القطاع لم يعرفوا سبيلا لتنفيذ وإعداد المتطلبات اللازمة لاقتحام هذا المجال، بما في ذلك اختيار الفرص الملائمة ودراستها وهيكلتها والتخطيط لها والإعداد لتنفيذها. هذا الواقع يمثل حالة عامة تواجه كل المبادرات الناشئة ضمن شريحة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، ليس في القطاع الصناعي فحسب، بل في كل القطاعات بوجه عام. وإذا أردنا أن نحقق النهوض الذي يتحدث عنه الجميع لهذه الشريحة من الأعمال، والتي نعلم جميعا أنها تمثل العمود الفقري لاقتصاد أي دولة كانت، فإن المطلوب هو تنظيم وحشد الجهود لدعم المبادرات الناشئة، خاصة في القطاع الصناعي، وإطلاق حاضنات الأعمال، وتوفير التمويل المغامر والاستثمار الملائكي، وهي مصطلحات ما زالت غائبة حتى الآن عن دورة الاستثمار والتنمية الاقتصادية في المملكة. وللتأكيد، فإن هذه الجهود يجب أن تتجاوز توفير التمويل بشكل منفرد، بل يجب أن تشمل أيضا الإرشاد والتوجيه والدعم الفني والتقني والإداري، لتعظيم فرص النجاح لتلك المبادرات والاستثمارات الناشئة. وفي رأيي فإن التركيز على جانب التمويل فقط في هذه العملية هو ما أدى إلى تأخير وإنقاص نجاح جهود بنك التسليف والادخار وصندوق المئوية وغيرها من المؤسسات التي رفعت راية دعم الكيانات الصغيرة والمتوسطة، وهو ما يجب أن يكون دافعا لإعادة هيكلة منظومة الدعم هذه، حتى تتحقق الأهداف المرجوة منها، بعيدا عن البهرجة والتطبيل الإعلامي.
انطلاقا من هذا الحديث، ولكي نحقق التطلعات الوطنية في تنمية القطاع الصناعي، فإنني أوجه الدعوة لتأسيس مركز لتنمية المشروعات الصناعية، بمبادرة من مجلس الغرف التجارية الصناعية، يكون الغرض منه العمل على خلق وحصر الفرص في مجال الصناعة في المملكة، وإعداد الدراسات الفنية والتسويقية والمالية الأولية لها، وتأسيس قواعد ومراكز للمعلومات والبيانات، وإدارة مجمل منظومة العلاقات بين الجهات الثلاث المختصة بإدارة القطاع الصناعي. أجزم أن هذا المركز، إن رأى النور يوما، سيكون له الأثر الأكبر في دفع عجلة التنمية الصناعية في المملكة، والمساهمة في خلق فرص استثمارية واعدة ومجزية لأبناء الوطن، وتنويع قنوات الاستثمار بعيدا عن القناتين اليتيمتين، العقار والأسهم، اللتين عصفتا بمدخرات الناس، وأسهمتا في مفاقمة الواقع المعيشي المخل الذي نعانيه جميعا.