لن يصدق أحد الرواية الروسية
بيان وزارة الخارجية السعودية جاء صريحاً وواضحاً: من غير المسموح لروسيا التدخل في سياسة المملكة العربية السعودية. لن نسمح لروسيا أو غيرها باتهام السعودية بدعم ما يسمى ''المجموعات الإرهابية'' في سورية. ليس هذا فحسب، بل عبر بيان الخارجية السعودية عن رفض السعودية واستهجانها الشديد للتصريحات الروسية غير المسؤولة ''والمجانبة لحقيقة حرص المملكة على التعامل مع الأزمة السورية وفق قواعد الشرعية الدولية وعَبر مجلس الأمن الدولي المعني بحفظ الأمن والسلم الدوليين، وهي الجهود التي – مع الأسف - تم إجهاضها وتعطيلها بالفيتو''.
الفيتو الروسي أعطى النظام السوري رخصة للتمادي في جرائمه البشعة ضد شعبه الأعزل، وبما يتنافى مع الأخلاق الإنسانية، وكل القوانين والأعراف الدولية، وهذا غير مقبول لدينا ونرفضه جملة وتفصيلاً. ما يثير الدهشة هو أن تسعى موسكو لتأمين مصالحها وتعزيز نفوذها وهيمنتها في المنطقة، وذلك عن طريق مساندة نظام بشار الأسد لنسف مهمة كوفي عنان ولقتل المزيد من الشعب السوري في حمص ودرعا وإدلب ثم تتهم أطرافاً أخرى بمساندة ''الإرهاب'' في سورية!
لا بد من الإشارة هنا إلى أن الاتهامات الروسية مبنية على افتراضات خاطئة وافتراءات مضللة يرددها إعلام النظام السوري. ربما علينا أن نذكر موسكو أنه عندما زارت فاليري آموس، وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية حي بابا عمرو في حمص الأسبوع الماضي، أقرت بأن المنطقة تعرضت لتدمير شامل وأن معظم سكانها قد فروا نتيجة للبطش الذي يمارسه نظام الأسد. في حقيقة الأمر، الأمم المتحدة أعلنت أن 230 ألف شخص في سورية فروا من منازلهم هروباً من العنف في البلاد، ما يؤكد أن النظام السوري يقوم بجرائم ممنهجة ضد الإنسانية.
من المفارقات أن الاتحاد السوفياتي السابق كان أول دولة تقيم علاقات دبلوماسية مع المملكة العربية السعودية عام 1932، لكن السعودية قررت إغلاق مكتبها في موسكو عام 1938 ورفضت إعادة العلاقات بين البلدين. في تلك الفترة وما بعدها كان الاتحاد السوفياتي السابق يدعم أنظمة معادية للمملكة العربية السعودية في جنوب اليمن والعراق وسورية.
عادت العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وروسيا بعد تفكك الاتحاد السوفياتي وقيام الاتحاد الروسي. شهدت العلاقات السعودية -الروسية بعض التحسن منذ عام 2003 بعد زيارة الملك عبد الله (ولي العهد آنذاك) لموسكو في أيلول (سبتمبر) من ذاك العام. كانت هذه مبادرة سعودية إيجابية لبدء صفحة جديدة في العلاقات السعودية - الروسية، لكن في حقيقة الأمر كانت موسكو مهتمة بعقد صفقات تجارية وعسكرية. تم التوقيع على اتفاقية الغاز في قمة أيلول (سبتمبر) 2003، كما وقعت شركة لوك أويل في عام 2004 عقداً للتنقيب وتطوير الغاز الطبيعي في المملكة العربية السعودية.
من المؤكد أن توقيع هذه الاتفاقيات ليس لها أي علاقة من قريب أو بعيد لاعتبارات الصداقة أو العواطف أو الأخلاقيات من جانب موسكو، بل جاءت لإعداد خطط ورسم سيناريوهات للمستقبل. عندما وصل الرئيس الروسي آنذاك فلاديمير بوتين إلى السعودية في شباط (فبراير) 2007 حرص على اصطحاب وفد كبير من رجال الأعمال لإثبات مصلحة روسيا في التعامل التجاري مع المملكة العربية السعودية. وقعت الحكومتان على اتفاقيات عدة لتشجيع الاستثمارات، وتوسيع حركة النقل الجوي، ومنع الازدواج الضريبي، وتعزيز التبادلات الثقافية. في الواقع، كانت روسيا مهتمة بشكل خاص ببيع الأسلحة والتكنولوجيا النووية للسعودية، كما أشار بوتين خلال المحادثات.
في كانون الثاني (يناير) 2008 وقعت روسيا على عقد بقيمة 800 مليون دولار لبناء خط للسكك الحديدية طوله 520 كيلو مترا في السعودية، لكن الرياض ألغت العقد بعد أربعة أشهر، ولن أخوض في مزيد من التفاصيل على الأقل في الوقت الحالي. في حزيران (يونيو) 2008 أبرمت السعودية وروسيا اتفاقية التجارة الثنائية، وخلال تموز (يوليو) 2008 وقعت الدولتان اتفاقا للتعاون العسكري التقني الذي أدى إلى تجدد الآمال الروسية للحصول على عقود مربحة.
لكننا ما زلنا غير راضين عن تورط موسكو المستمر والواضح والصريح في مبيعات الأسلحة لسورية. نريد أن نذكر موسكو أن الهجمات الإرهابية على النساء والأطفال في سورية لم تأت من فراغ؛ فقد ازدادت شحنات الأسلحة الروسية منذ بدء الانتفاضة ضد بشار الأسد. في الواقع، قامت موسكو بتدريب أجهزة النظام السوري القمعية والشبيحة والقناصة على هجمات إرهابية محددة بما في ذلك تدريب القوات السورية الخاصة لكسر إرادة الشعب السوري.
استمرت موسكو في تزويد النظام السوري بالأسلحة الفتاكة الجديدة بما في ذلك شحنات P-800 صاروخ كروز Yakhont التي وصلت خلال الأسابيع القليلة الماضية، كما زودت دمشق بأنظمة باستيون وأكثر من 60 قاذفة للهجوم البري، إضافة إلى صواريخ إسكندر-E المدمرة. من هذا المنطلق، لا يبدو أن مبيعات موسكو من الأسلحة لسورية تظهر أي مؤشر على الانصياع للضغوط الدولية، ما يؤكد أن هدف روسيا الوحيد هو إبقاء الرئيس السوري بشار الأسد في السلطة مهما كان الثمن.
الموقف الروسي العدائي من السعودية واضح، فقد قال إيغور كوروتشينكو مدير المركز الدولي لتحاليل تجارة الأسلحة إنه لا حاجة إلى انتظار تطور التعاون العسكري - التقني في المستقبل بين موسكو والرياض، وذلك لأن ''النظام السعودي كان وسيبقى الخصم الجيوسياسي لروسيا في المنطقة، خاصة في ظروف احتدام الأوضاع حول إيران وسورية''.
الأمير سعود الفيصل كان واضحاً حين أكد أن ما يحدث في سورية ''مذبحة وأنه من حق المدنيين الدفاع عن أنفسهم''. لن يسمح العالم للنظام السوري بالاستمرار في سلوكه العسكري الطائش ليكون حلا لما يجري في سورية. ولا يمكن بأي حال من الأحوال تبرير المذابح المرتكبة في حق المدنيين العزل.
إن هذا التوجه القمعي يعبر عن مساندة روسية صريحة لنظام يرتكب ما يصل إلى مستوى جرائم ضد الإنسانية. لن أستغرب أن يصبح المساند لهذه الأفعال عرضة للمسؤولية الأخلاقية والقانونية الجنائية لاحقاً جراء هذا الموقف العدائي ضد الشعب السوري. أزمة روسيا الحقيقية هي أنها أصبحت تعاني الانفصام والتناقض بين الحفاظ على منظومتها المركزية وبين مبادئ الحرية وحق الشعب السوري في حياة كريمة.
باختصار، لسنا في حاجة إلى روسيا لتعلمنا دروسا في الأخلاق، فلا أحد يصدق الرواية الروسية بعد اليوم.