الإعلام الحُر المُسَيَّس
اعتدنا القول إن الإعلام الأمريكي هو الأكثر حرية من بين دول العالم نظرًا لهامش النقد المتاح، الذي يصل في كثير من الأحيان إلى حد الإهانة والتوبيخ لرموز أمريكا السياسية والدينية والتشريعية، وهو أمر صحيح إذا ما نظرنا إلى آلية تشغيل الإعلام كجزء من ماكينة سياسية أكبر. وإذا ما نظرنا إلى مخرجات ذلك الإعلام على أنه مجرد صوت في الهواء لا يغير ولا يبدل ما تريده قوى معينة لهذا السياسي أو تلك السياسة، ولا أدل على ذلك إلا ما واجهه الإعلام الأمريكي من عجز مفضوح عن تنحية الرئيس كلينتون إبان فضيحة مونيكا لوينسكي رغم الدعوات المتكررة للإعلام بضرورة إسقاط الرئيس نتيجة اقترافه ذنب الخيانة الزوجية والكذب على الشعب الأمريكي، الذي يصنف سياسيًّا على أنه أحد أوجه خيانة الشعب.
ولكي نبدأ في فهم الإعلام الأمريكي على حقيقته، علينا أن نعرف أن النظام الإعلامي الأمريكي قد أعيدت صياغة أهدافه ومبادئه وفق تحالف نشأ في بدايات القرن الـ20 بين المال وقادة الرأي، كما يقول المشككون الذين يحاولون تسليط الضوء على نظرية مفادها بأن الإعلام الأمريكي منذ ذلك الحين قد تم تسيسه لخدمة مجموعة من المصالح الخاصة، يدير مصالحها مجلس تم تأسيسه لهذا الغرض، ويقوم بالإشراف على تنفيذ سياسيات عامة تخدم أهداف تلك المجموعة من المتنفذين، هذا المجلس الذي يعرف بـ(مجلس العلاقات الدولية) The Council on foreign relations، أسس عام 1917م حين سجلت وثائق الكونجرس ما كشفه عضو الكونجرس الأمريكي أوسكار كالاوي Oscar Callaway من أن جهات تدعم مصالح بنك جي بي مورجان J P Morgan قامت بتكليف 12 من مديرين ومسؤولين صحفًا أمريكية بهدف دراسة وتحديد أسماء أكثر الصحف الأمريكية تأثيرًا في العامة، وكم من الصحف هم في حاجة إليها للسيطرة على السياسة الإعلامية للإعلام الأمريكي بشكل عام، حيث توصلت الدراسة إلى أنهم في حاجة للسيطرة على فقط 25 مؤسسة إعلامية مؤثرة لتحقيق ذلك الهدف، وبالفعل تم شراء السياسات الصحفية لتلك الصحف، وتم تعيين مسؤولي تحرير في تلك المطبوعات لضمان أن جميع ما ينشر فيها يتماشى مع السياسة العامة لتلك المجموعة التي كان يسيطر عليها بنك جي بي مورجان، والتي أصبحت تسمى فيما بعد ''مجلس العلاقات الدولية''، والتي تعرف أيضًا بـ CFR.
يحدد المجلس أهم أهدافه على أنها (زيادة وعي وتفهم العالم لأمريكا)، إلا أن هناك إثباتات كما يقول المشككون في أن هذا المجلس يهدف إلى خلق نظام عالمي خاص من أجل السيطرة المالية وجعلها في أيدي مجموعة صغيرة من المتنفذين من أصحاب البنوك وأبناء الطبقة الأرستقراطية ذات الأصول الأوروبية من أجل السيطرة على النظم السياسية في جميع دول العالم، لكي يتحقق هدفهم الأساس الذي يتمثل في سيطرتهم الكاملة على الاقتصاد العالمي، ومن ثَمَّ السيطرة على العالم بأكمله.
تتكون عضوية هذا المجلس من أهم الشخصيات وأكثرها نفوذًا في القطاع المالي والتجاري والسياسي وبالأخص القطاع الإعلامي، حيث يوصف هذا المجلس بأنه المنظومة المؤسساتية التي تحكم فعليًّا الولايات المتحدة، فمثلاً أعضاء المجلس من الشخصيات الصحفية المرموقة هم حقيقة لا يعملون على نقل ما يحدث من أخبار وأحداث حول العالم كما يقول المشككون، بل هم في عضويتهم هذا المجلس يقومون بالمشاركة في صنع الأحداث من خلال المخططات التي يشاركون في إعدادها مع باقي أعضاء هذا المجلس.
من أهم أعضاء المجلس من الأسماء الإعلامية المعروفة نذكر المذيع التلفزيوني (توم بروكوف) والمذيع التلفزيوني دان راذر والمذيعة التلفزيونية باربرا والتر ووليم إف باكلي مؤسس المجلة السياسية الشهيرة National Review، وإمبراطور الإعلام روبرت ميردوخ ورئيس ديزني مايكل إيزنير ورئيس شبكة ABC التلفزيونية توماس ميرفي ورئيس CNN توم جونسون ورئيس Time Warner جيرالد ليفين.
يدلل المشككون في حرية الإعلام على أنه لا توجد حرية حقيقية في الإعلام الأمريكي، حيث يضربون أمثلة على ذلك من قبيل دور الصحافة الحقيقي في حرب العراق الأخيرة التي تثبت أن الإعلام الأمريكي بكل أوجهه مُسَيَّسٌ لخدمة أهداف الحكومة، وخير دليل على ذلك قبول الإعلام بأن يكون خاضعًا للرقابة العسكرية في نقله الخبر من خلال لعب دور أساس في الماكينة الدعائية الحكومية عبر ما سمي Embedded Journalism، وأن الإعلام بكل ما صبه من غضب على كلينتون لم يستطع إسقاطه رغم الكذب والخيانة العلنية، والمثبتة، وأن انتصار بوش الأب في حرب تحرير الكويت لم تشفع له في إعادة انتخابه رغم دعم الإعلام له، وأن الفضيحة التي فجرها الإعلام وسميت (وتر جيت)، التي أسقطت الرئيس الأمريكي نيكسون ما كان لها أن تتحقق لولا أن نيكسون هو الرئيس الثاني والأخير في تاريخ أمريكا الذي لم ينضم أبدًا لعضوية أي من الجماعات الخفية التي حكمت وتحكم أمريكا منذ تأسيسها، في حين أن الرئيس الأول هو الرئيس جون إف كيندي الذي اغتيل في قضية لم تكشف تفاصيلها حتى تاريخه.