الأمـَل!
".. ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القومُ الكافرون" صدق الله العظيم.
انظروا كيف تحيط المشاكلُ بنا من كل جهة، من يسار وشمال وفوق وتحت، كل أنواع المشاكل والمخاطر وتهديدات الحياة الحاضرة والمستقبلية. مشاكل بالحياة الاجتماعية، والإدارية، والاقتصادية للفرد والجماعة، ونقص الخدمات الطبية، وضعف في التعليم، وإخفاق في مجالات حيوية، كما أن الوضع العامَّ مملوءٌ بدخان الحرب، ونذُر شح المياه، وسوء التخطيط المخلّ لثرواتنا الناضبة، مع تهاويم عن مصير الأجيال القادمة..
لا أدري إن كنتُ أكتب تأثراً بمكالمة سعوديّ يعاني أبناؤه مرضاً عضالاً في أمريكا، ولا يعالجهم أحدٌ لتضارب بين شركة أرامكو ووزارة الصحة. لا يهمني هنا أبداً مَن المخطئ ومَن المُحق، كما لا يهمني أبداً إن كان أبُ الأطفال قد ارتكب خطأ ما ضدّ نظام الجهتين، فتفكيرنا محصور في النظام والورق والتقتير في غير محله، والتبذير بكل محل .. الذي يهمني هو مصير الأطفال المهددين بالموت – حسبما نقل لي الأبُ والعم - وبأوراق وتقارير من مستشفيات أمريكية. ولن أترك هذا الموضوعَ الإنساني المؤلم هنا، بل سأستمر حتى يكتب الله لهم فرجاً .. فالأبُ يقول إنه مؤمنٌ، متعلق بالأمل.
المشكلة الغائبة عن أي بارقةٍ إنسانيةٍ هي أن نفكر في الإجراء وفي الورق وفي النص أكثر من الذين وُضِع من أجلهم النصُّ والنظام، وحتى الموظفون الذين يتفننون بتغييب الإحساس الإنساني، يكون تركيزهم على بقرة نظامٍ تكاد تُقدّس..
على أننا نتشبث بالأمل!
كان ابن الرومي شاعراً بطبيعته مركباً من التشاؤم، لما مات اعتقد كثيرٌ أن لعنتَه بقيت تتنقل عبر الأزمان تحملها القرون إلى قرون، والقصص كثيرة عمّن تناول موضوعا لابن الرومي ثم صادته مصيبة نسبت إلى "لعنة ابن الرومي". إن أول من نسخ ديوان "ابن الرومي" قُطع رأسُه بالسيف، ومن هنا تعزّزت الحكاية حتى الأزمان الحديثة، فالأديب الفكِه المرح عبد القادر المازني تناول موضوعاً عن ابن الرومي فكُسِرتْ ساقُه ونسبت للعنة ابن الرومي، ودخل الكبيرُ "عباس محمود العقاد" السجن مباشرة بتهمة العيْب بالذات الملكية بعد أن وضع كتاباً عن ابن الرومي، فقيل لحقت به اللعنة. ولما نقل "كامل كيلاني" مختارات من شعر ابن الرومي مات ابنه وقيل لحقته اللعنة.. وينسون أن المازني انكسرتْ رجلُه لإهمال فيه وفيه عرج، وأن العقادَ لولا إقدامه وبإرادته بالتعرُّض للذات الملكية لما سُجن، وابن الكيلاني كان يعاني مرضاً وقدّر الله له الوفاة سواء كتَب عن ابن الرومي أم لم يفعل. كما شاعت لعنة "توت عنخ آمون" بالغرب كالنار في الهشيم لما تتابعت حوادثُ موت مكتشفي قبر الملك الفرعوني الصغير.. وكان مقدرا لهم أن يموتوا بأي حال.
إن تعاليمَ الإسلام والمبنى العقلي والمنطقي يقودونا إلى حقيقة أن ابن آدم إذا مات انقطع عمله، فلم يعد يملك نفسا ولا وجودا ولا قدرة بأي حال.
إن الحياة ضيقة ومخيفة وموحشة بلا أمل. وفي أسطورة صندوق باندورا الإغريقية حذرت الآلهة من صندوق مقفول، ولكن فضول من حوله دفعهم إلى فتحه، وإذا بكل الشرور في العالم تخرج تملأ الأرض .. ولم يبق إلا شيء واحد بالصندوق أبهج الجميع في عاصفة الرعب: الأمل! إن التعلق بالأمل أحيانا يكون موازياً للحياة ذاتها، وفقدان الأمل موازٍ لفقدان الحياة، فلا يكتمل إيمانٌ بلا أمل. العبادُ على الأرض يرتادون المساجد والمعابد والكنائس أملاً في رحمة الله، وأملاً في نعيمٍ خالدٍ مقيم، وأملاً في إصلاح حال دنياهم وحل مصاعبهم. الأملُ لا يخذلُ أحداً، كالإيمان لا يخذل أحداً.. لأن الأملَ بحد ذاته، حتى ولو لم يتحقق الرجاءُ، شعورٌ مطمئن، وجميل، نقيض التشاؤم الذي يقيم جاثوماً على النفس، إن تحقق وإن لم يتحقق.
يصف الغربيون فكر نيتشه الألماني بـ(Dismal black) أي الموحش السوداوية، لتشاؤمه الرهيب فهو مَن قال العبارة السيئة الذكر بكتابه الشهير: "إنساني، كله إنساني، Human, All human): "في الحقيقة الأمل هو الشيطان وأكبر الشرور، لأنه يطيل شقاء الإنسان"، وعاش حياة ممسوحة بالمرض والعتَه العقلي والعشق المحرم الفاشل، وزحف على الأرض يقبل قدم فتاة.. ومات بئيساً بائساً. كان أكبر أعداء الأمل، ممّا نصَر الأمل.
من المستحيل التنبؤ بمصير المستقبل، الأمل يجعلنا نعمل من أجل تحقيقه. من الصعب تحمل سلبية الحاضر، الأملُ يساعدنا على تغييره.
وأبلغ عبارة أملٍ على الإطلاق: "ومن يتقِ اللهَ يجعلْ له مخرجا".