لقاء وزير الاقتصاد والتخطيط .. في غرفة تجارة الرياض
عندما تلقيت دعوة لجنة شباب الأعمال في غرفة الرياض لحضور اللقاء الذي نظمته اللجنة مع الدكتور محمد الجاسر وزير الاقتصاد والتخطيط قمت على الفور بإلغاء جميع ارتباطاتي في ذلك الوقت حرصا مني على حضور هذا اللقاء رغبة مني في الاستماع إلى ما سيقوله هذا الرجل الذي تولى مهمة قيادة هذه الوزارة الحاضرة الغائبة. حضرت هذا اللقاء محملا بالكثير من الآمال في أن تطول نجاحات هذا الرجل السابقة هذه الوزارة، وأن يتمكن من أن يعيد إليها بريقها ومكانتها انطلاقا من أهمية دورها في منظومة التنمية الوطنية . ولأنني لم أتمكن من الحصول على فرصة للتعليق في ذلك اللقاء - بالنظر إلى سيطرة أعضاء مجلس إدارة الغرفة الذين احتلوا الصفوف الأولى في القاعة على دفة الحديث - فإنني رأيت أن أسجل تعليقي على صفحات هذه الجريدة.
إن حديث الوزير تبنى ذات اللغة التي نسمعها دوما في أحاديث المسؤولين، فالوزير أورد في حديثه مجموعة من المؤشرات الرقمية التي أراد بها إبراز منجزات خطط التنمية، فأورد في حديثه تلك الأرقام التي استرشد بها على تنويع القاعدة الاقتصادية وارتفاع نسب الصادرات غير النفطية إلى الواردات السلعية، وأورد أيضا أرقاما متناثرة تشير إلى ارتفاع إنتاج الأسمنت كمؤشر على نهضة قطاع البناء، وارتفاع معدل أعمار السكان كمؤشر على تطور القطاع الطبي، والزيادة في طول الطرق المعبدة وغير ذلك من الأرقام. ومع أن الوزير قال إن الدولة غير راضية وغير مكتفية بهذه الإنجازات، وإن ملك البلاد دأب على حث الوزراء على سرعة وكفاءة الإنجاز، إلا أنه لم يتناول بحديثه مواطن الخلل والقصور في خطط ومنجزات التنمية، ولم يعرج على المشكلات التي ظلت حتى الآن بارزة على السطح دون حلول جذرية على الرغم من بقائها محل البحث لسنوات طوال . والشيء الآخر أن حديث الوزير خلا من مقارنة دقيقة بين هذه الأرقام التي تبرز الإنجازات وتلك التي تضمنتها خطط التنمية السابقة، بما يمكن أن يؤسس قياسا حقيقيا لمقدار النجاح في تنفيذ تلك الخطط. حديث الأرقام هذا ليس جديدا في الخطاب الرسمي السعودي، وهو في العموم فقد تأثيره خاصة بعد ممارسته باقتدار من قبل الهيئة العامة للاستثمار. ولكن المشكلة هنا أنه أتى من وزير يتمتع بكم كبير من المصداقية استنادا إلى نجاحاته السابقة، وخاصة أنه لم يمض بعد في هذه الوزارة أكثر من ثلاثة أشهر. كنت أتمنى أن يدع حديث الأرقام والإنجازات ويركز على المشاكل والتطلعات.
وفي الخلاصة، فإن حديث الوزير أبرز حقيقة أن هذه الوزارة ما زالت تعيش في برج عاجي من الدراسات والإحصاءات النظرية بعيدا عن تلمس المشكلات على أرض الواقع، بما يمكن أن يؤسس لإعادة صياغة دورها وتفعيله في منظومة التنمية الوطنية.
إحدى النقاط التي وردت في حديث الوزير وأثارت كثيرا من الجدل هي قوله إن دور وزارته هو التنسيق بين الجهات الحكومية المختلفة، وليس التدخل في تنفيذ خططها وبرامجها، وإن عملية التخطيط يجب ألا تكون مركزية كما هو الحال في المجتمعات الاشتراكية، بل إنها يجب أن تنحصر في تخطيط الأهداف والاستراتيجيات والتنسيق مع الجهات الأخرى لوضع خطط تنفيذها وتفعيلها على أرض الواقع. ومع أني أتفق مع رؤية الوزير حول عدم جدوى مفهوم المركزية في إدارة الدولة وخطط التنمية، إلا أنني أبرز هنا الفارق بين مركزية التخطيط ومركزية الإدارة. فمركزية التخطيط تمثل مطلبا مهما في ظل غياب آليات التشريع البرلمانية، واضطلاع الدولة بهذه المهمة بشكل أساسي. وغياب مركزية التخطيط هو في رأيي السبب المباشر وراء تضارب الخطط والبرامج والسياسات التي تقوم بإعدادها أجهزة الدولة المختلفة بشكل ذاتي، فتجدها في العموم تأتي متضاربة أحيانا ومعزولة أحيانا عن مجمل توجهات الدولة الاستراتيجية. وبالتالي، فإن التخطيط المركزي يمثل الوسيلة الأنجع لضمان تنسيق هذه الخطط والاستراتيجيات، وتحقيق التكامل والتنسيق المطلوب بينها، وهو ما يبرز أهمية دور هذه الوزارة بهذا الصدد، وهو الدور الذي قلت سابقا إنه لن يتحقق طالما بقيت مهمة التخطيط منوطة بجهاز الوزارة التي تقف على درجة واحدة مع بقية الوزارات التنموية، وهو ما يجعلها أقل قدرة على أداء هذا الدور، وقيادة أدوار بقية الوزارات والأجهزة الحكومية. ومن جهة أخرى، فإنه على الرغم من اتفاق الجميع على عدم جدوى مركزية الإدارة، إلا أنها حالة ممارسة على أرض الواقع في ظل سيطرة وزارة المالية على توجيه وإدارة المخصصات المالية للأجهزة الحكومية، إلى درجة أن صرف المستخلصات يتم باعتماد الممثلين الماليين التابعين لوزارة المالية، وهو ما يبرزه أيضا ذلك التفاوت الملحوظ بين الأرقام الواردة في خطط التنمية وتلك الواردة في موازنات الدولة السنوية، في الوقت الذي كان من المفترض أن تعكس أرقام الموازنات آليات تنفيذية لخطط التنمية في انسجام واضح يحقق التكامل المأمول بين أدوار هذه الأجهزة.
خلاصة القول، تخطيط التنمية مهمة تحتل مكان الرأس من جسد إدارة التنمية، وهي المحور الأساس والموجه الأول لنجاحها بما يحقق تطلعات الوطن قيادة ومواطنين . هذا النجاح يتطلب مراجعة حاسمة وسريعة لدور الوزارة وموقعها في هيكل الدولة التنظيمي، وربما يكون أحد أدوات تحقيق هذا التوجه هو دمج وزارة التخطيط والهيئة العامة للاستثمار مع المجلس الاقتصادي الأعلى، ليكون جهازا مركزيا يقود ويدير عملية تخطيط التنمية وتنسيق برامجها مع هيئات ووزارات الدولة التنفيذية. وهنا أجد لزاما علي أن أشير إلى أن سيطرة المحور الاقتصادي على مفهوم التنمية لا يمكن أن تحقق النجاح المأمول لهذه التنمية، إذ لا بد أيضا أن يبرز اهتمام مماثل ببقية المحاور، بما فيها محاور التنمية الاجتماعية والبشرية والسياسية وغيرها من محاور التنمية الشاملة.