قبل فصل «الصناعة» .. وقبل إنتاج «البرميل الأخير»!
''إمبراطورية سامسونج''.. فيلم وثائقي (24 دقيقة) معروض على ''يوتيوب'' أنتجته إحدى القنوات الفرنسية، ويتحدث عن شركة سامسونج الكورية التي تحقق أرباحا تعادل أرباح ثلاث شركات أمريكية كبرى مجتمعة (أبل، وجوجل، ومايكروسوفت)، ويعمل فيها 250 ألف موظف في كوريا الجنوبية وخارجها، منهم 40 ألف باحث موزعون في ثماني ''مدن رقمية'' محظورة على غير العاملين في ''سامسونج''، حتى أن القناة الفرنسية استغرقت ستة أشهر من المفاوضات لتحصل على موافقة الشركة على التصوير داخل إحدى تلك المدن!
''سامسونج'' يراها الكوريون ''معجزة اقتصادية'' انطلقت من رحم العدم، من بلد صغير أنهكته الحروب، وحرم من النفط والموارد، ومع ذلك نجح في بناء اقتصاد يقوم على المعرفة منذ ستينات القرن الماضي، وهي مرحلة تبرعت فيها السعودية بتعبيد طرق في ذلك البلد الآسيوي!
لكن ''النفط'' الذي أنعم الله به علينا، وجعلنا نبسط أيدينا في الإنفاق على أنفسنا وغيرنا، هو مورد طبيعي قابل للنفاد. ولهذا، فإن ''سيناريو البرميل الأخير'' يدفعني إلى القلق، ولا سيما إذا علمنا أن 93 في المائة من إيراداتنا تأتي من النفط. وكنت دوما أتمنى التركيز على تصدير المشتقات النفطية أكثر من النفط الخام. فالمشتقات عوائدها أعلى بكثير من النفط الخام، وأسرع في الاستهلاك، وغير قابلة للتخزين لفترات طويلة، كما هو الحال بالنسبة إلى النفط الخام الذي تشتريه منا بعض الدول، وتعيد تخزينه في ''آبار نفط ناضبة'' ليكون مخزونا استراتيجيا لها في يوم من الأيام!
كيف سنعيش بعد إنتاج ''البرميل الأخير''، وليس لدينا أية مصادر أخرى للدخل الوطني؟ ترى أتبسط لنا الأيدي التي كنا لها باسطين؟!
سنتمكن من العيش لو حققنا الرؤية المستقبلية التي وضعها خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، رعاه الله، لتحويل البلد إلى مجتمع معرفي بحلول عام 2022.
لكن هل نحن قادرون، بأبنائنا وتعليمنا وتدريبنا وأجهزتنا الحكومية وشركاتنا، على تحقيق الرؤية الملكية وتنفيذ أهداف خطتي التنمية الثامنة والتاسعة؟ لست متأكدا من قدرة بعض أجهزتنا الحكومية على تحقيق ذلك، فمجلس الشورى مثلا أبدى هذه الأيام تخوفه من عدم قدرة وزارة التجارة والصناعة التي تنوء بأعباء متعددة وجسيمة على تنفيذ الاستراتيجية الوطنية للصناعة، مجددا مطالبه بفصل ''الصناعة'' في وزارة مستقلة عن ''التجارة'' كما كان الحال سابقا.
فالاستراتيجية الوطنية للصناعة التي أقرها مجلس الوزراء في شباط (فبراير) 2009 تركز على إيجاد صناعة منافسة وتدفعنا في الوقت نفسه نحو التوجه إلى الاقتصاد المعرفي على مدى 12 عاما، حيث يتمكن السعوديون من رفع مساهمة قطاع الصناعة 20 في المائة من إجمالي الناتج المحلي، ورفع نسبة ''المنتجات التقنية'' إلى 60 في المائة من إجمالي الإنتاج الصناعي.
ولأن ''الاقتصاد المعرفي'' لا يختزل في الصناعة فحسب، بل يترجم في صورة منظومة كاملة تتألف من التعليم والتدريب والأبحاث والابتكار والاتصالات وتقنية المعلومات وريادة الأعمال والاستثمار، فإننا نحتاج إلى أجهزة حكومية تتمتع بالكفاءة والفاعلية تساعدنا على استيفاء متطلبات ذلك الاقتصاد، فالوضع الراهن يكشف أن استراتيجيات وخطط الاقتصاد المعرفي متفرقة ''شذر مذر'' بين الجهات الحكومية.
وإذا كان هناك من يتحمس إلى إنشاء وزارات جديدة أو ''ترقية'' كل جهاز إداري (هيئة أو مؤسسة) إلى وزارة، فأنا أكثر ميلا إلى ''إعادة التنظيم''، مع التأكيد أن الشكل الإداري (وزارة أو هيئة) ليس غاية في حد ذاته، وإنما وسيلة لتحقيق الغايات (التحول نحو الاقتصاد المعرفي).
من هذا المنطلق، أقترح على المجلسين (الشورى والوزراء) أن يتم إنشاء ''وزارة للاقتصاد المعرفي'' بدلا من إعادة فصل ''الصناعة'' عن ''التجارة''. فالوزارة المقترحة هي كيان (مظلة) يتشكل من دمج أربع وزارات (التعليم العالي، التجارة والصناعة، الاتصالات وتقنية المعلومات، الثقافة والإعلام)، وإعادة تنظيمها في هيئات تتمتع بالمرونة الإدارية والمالية، يديرها محافظون، بالمرتبة الممتازة، يرتبطون بوزير الاقتصاد المعرفي الذي يمثلهم جميعا أمام مجلس الوزراء، ويتحمل المسؤولية التامة لتطبيق استراتيجيات وخطط الاقتصاد المعرفي كافة:
التعليم العالي: تتحول الوزارة إلى ''هيئة التعليم العالي'' وتواصل الإشراف على الجامعات السعودية التي تجاوزت 33 جامعة، ومع ذلك يظل عددها غير كاف من وجهة نظر مدير جامعة الملك سعود الدكتور عبد الله بن عبد الرحمن العثمان، عراب الاقتصاد المعرفي، مؤكدا أن السعودية في حاجة إلى 80 ـ 90 جامعة على الأقل للانتقال إلى ذلك الاقتصاد. وسيتبع للهيئة ''المركز الوطني للقياس والتقويم في التعليم العالي''. ومن المقترح أيضا إلحاق ''مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية'' بالهيئة مع إجراء تغييرات تنظيمية وإدارية من ضمنها إعادة تشكيل مجلس إدارتها، وتغيير ارتباط رئيسها من رئيس مجلس الوزراء إلى وزير الاقتصاد المعرفي.
التجارة والصناعة: تحل الهيئة العامة للاستثمار أو ''هيئة الاستثمار'' محل وزارة التجارة والصناعة، وهذا يستلزم نقل جميع اختصاصات الوزارة إلى الهيئة مع إجراء تغييرات، ومن ذلك إعادة تشكيل مجلس إدارتها، وتغيير ارتباط محافظ الهيئة من رئيس المجلس الاقتصادي الأعلى إلى وزير الاقتصاد المعرفي. على أن يُدمج مع هيئة الاستثمار كل من ''هيئة المدن الصناعية ومناطق التقنية''، و''هيئة تنمية الصادرات السعودية'' المعنية بتنمية الصادرات غير النفطية، ويُنقل ارتباط ''صندوق التنمية الصناعية السعودي'' من وزارة المالية إلى وزارة الاقتصاد المعرفي.
الاتصالات وتقنية المعلومات: تحل ''هيئة الاتصالات وتقنية المعلومات'' محل وزارة الاتصالات وتقنية المعلومات، وتواصل الهيئة دورها في تنظيم القطاع، على أن يتغير ارتباط محافظها إلى وزير الاقتصاد المعرفي.
الثقافة والإعلام: تستبدل الوزارة بـ''هيئة الثقافة والإعلام'' مع الإسراع في خصخصة التليفزيون والإذاعات السعودية ووكالة الأنباء السعودية (واس)، على أن تتفرغ الهيئة لتنظيم قطاع الثقافة والإعلام دون أن تتدخل في تقديم الخدمات الإعلامية أو الثقافية.
إذن، الصناعة حلقة في ''سلسلة'' الاقتصاد المعرفي، وبدلا من أن نفصل ''الصناعة'' في وزارة مستقلة عن ''التجارة''، ونكرر أخطاء الماضي، دعونا نعيد تنظيم ''الجهات'' بما يتماشى مع العصر ومتطلبات التنمية، وننشئ وزارة للاقتصاد المعرفي تشرف على كل الجهات المسؤولة عن بناء هذا الاقتصاد الذي سينقلنا من الاعتماد على مصدر نضوب (النفط) إلى مصدر غير نضوب (المعرفة)!