عندما تمارس وزارة التجارة التستر
قد يكون هذا العنوان صادما للإخوة القراء، إذ لا يمكن أن يتخيل أحد من الناس، وأنا أولهم، أن تقع الدولة في فخ ممارسة التستر الذي تجرمه وتحاربه بشتى الوسائل والقوانين. ولكن الخبر الذي نما إلى علمي في الأسبوع الماضي هز في نفسي هذه القناعة، بل جعلني أفتح عيني هنا وهناك على صور وجدتها متعددة لتستر منظم تمارسه بعض أجهزة الدولة دون رقيب أو حسيب. الخبر كان صدور موافقة وزير التجارة والصناعة على تجديد الترخيص المؤقت لشركة دار الهندسة للاستشارات الهندسية، وهو الإجراء الذي يمثل خرقا فاضحا لتفاهمات سابقة بين الهيئة السعودية للمهندسين من جهة ووزارتي المالية والتجارة من جهة أخرى، حول ضرورة تصحيح وضع هذه الشركة غير النظامي. الأمر الذي أحبطني كثيرا في هذا الخبر ليس مضمونه فحسب، بل كونه أتى من رجل تعلقت به آمال الكثيرين ليحقق تغييرا جذريا في نمط إدارة وزارة التجارة والصناعة للقضايا والملفات التي تضطلع بها، فإذا به يكرر ذات الخطأ وذات التجاوز المتعالي للأنظمة والتشريعات، بما فيها تلك التي تسنها وتعلنها الوزارة ذاتها وتطبقها بشكل انتقائي.
شركة دار الهندسة لمن لا يعرفها هي شركة أجنبية تمارس عملها في مجال الاستشارات الهندسية في المملكة منذ سنوات بترخيص مؤقت صادر من وزارة التجارة والصناعة وفق النظام الذي يتيح للوزارة إصدار تراخيص مؤقتة للشركات الأجنبية لممارسة مهام محددة ولفترات زمنية معينة ينتهي بعدها هذا الترخيص. هذا النوع من التراخيص المؤقتة يمثل في حقيقته شكلا من أشكال التستر، إذ إنه يتيح المجال للشركات الأجنبية للعمل خارج الأنظمة التي تفرض عليها ترتيبات معينة للتواجد الدائم في المملكة، ومع ذلك فإن وجودها يكتسب صفة الديمومة استنادا إلى التجديد المتواصل لتلك التراخيص المؤقتة، حتى إن بعض الشركات الأجنبية التي تعمل بموجب تراخيص مؤقتة مضى على وجودها في المملكة أكثر من 30 عاما. حالة شركة دار الهندسة تعد إحدى أكثر هذه الحالات خرقا للأنظمة، فنشاط الاستشارات الهندسية هو أحد الأنشطة المهنية التي تفرض الأنظمة فيها حدا أدنى من المشاركة السعودية من قبل شريك مهني مرخص له بممارسة المهنة، على أن يحصل مثل هذا الكيان على ترخيص لمزاولة المهنة من الجهة المختصة بإدارة هذا القطاع، وهي الهيئة السعودية للمهندسين، وهو ما لم يتحقق في حالة هذه الشركة التي تمارس كثيرا من التعالي على هذه الهيئة كونها تتمتع بحماية وزارة التجارة والصناعة من جهة، وعميلها الأهم من جهة أخرى، ولأن هذه الشركة تمارس عملها دون الحصول على ترخيص من الهيئة السعودية للمهندسين، فإنها بالتالي لا تقع تحت طائلة المسؤولية المهنية عن الأخطاء المهنية التي يمكن أن تقع فيها، وهو ما يشكل خطرا حقيقيا ومخالفة صريحة وفاضحة لنظام الهيئة السعودية للمهندسين واختصاصها بمسؤولية الترخيص والرقابة والإشراف على الكيانات التي تقدم خدمات الاستشارات الهندسية في المملكة.
قلت إن نظام التراخيص المؤقتة يهدف إلى إتاحة المجال لشركات أجنبية متخصصة لأداء مهام محددة تخدم احتياجات التنمية في مشاريع ومهام محددة ولفترات زمنية معينة. وأنا لا أدري هنا ما وجه التميز والندرة في نشاط شركة دار الهندسة في بلد يعج بالمكاتب والكيانات الهندسية المتخصصة بلغ عددها أكثر من ثلاثة آلاف مكتب وفق إحصاء الهيئة الأخير. صحيح أن كثيرا من هذه المكاتب هي مكاتب ضعيفة مهلهلة مفككة تفتقر إلى القدرات والمهارات المهنية الكفؤة التي تمكنها من الإسهام بفعالية في إنجاز مشاريع التنمية الوطنية، إلا أن هناك عددا من المكاتب السعودية المتميزة التي أسهمت وتسهم بفعالية في هذا المجال. وهو ما يجعل وجود شركات هندسية أجنبية تعمل بتراخيص مؤقتة يتم تجديدها بشكل متواصل أمرا مستغربا ومستهجنا، خاصة أنها تفوت الفرصة على الكيانات الهندسية المحلية من قطف ثمرات هذه الطفرة التنموية الهائلة التي يعيشها الوطن في هذه الفترة، بما في ذلك فرصة بناء الخبرات والمهارات وترسيخها في أبناء الوطن من المهندسين. وفي حالة أخرى من حالات التستر، كنا قد سمعنا أخيرا نبأ تعاقد وزارة الإسكان مع شركة هندسية أجنبية، وهي شركة بارسونز الهندسية، لتقديم خدمات الاستشارات الهندسية للمرحلة الأولى من مشروع خادم الحرمين الشريفين لبناء 500 ألف وحدة سكنية، وهو ما أثار امتعاض واعتراض كثير من أبناء الوطن من المهندسين حول مدى الحاجة للتعاقد مع شركة أجنبية لمثل هذا المشروع الذي لا يحمل أي تعقيد أو تحد فني خاص يتطلب الاستعانة بخبرة أجنبية لتنفيذه. الشيء الذي ربما لا يعلمه الكثيرون هو أن شركة بارسونز التي تعاقدت معها وزارة الإسكان لا تملك ترخيصا لممارسة هذا النشاط في المملكة من الهيئة السعودية للمهندسين، بل إن ترخيصها هو لنشاط المقاولات المتخصصة في قطاع النفط والبتروكيماويات وفق نظام شركات الخدمات الهندسية المتكاملة للتصميم والتنفيذ والتوريد. أليس هذا أيضا شكلا من أشكال التستر الذي يمارسه أحد أجهزة الدولة؟
الأمر الخطير هنا هو أن ممارسة مثل هذا التستر تقع من قبل وزارة التجارة والصناعة التي يفترض بها أن تكون المسؤولة عن محاربة التستر على المستويات كافة. والمشكلة أن هذه الوزارة تمارس هذا الخلل وهذا الخرق للأنظمة والقوانين في الوقت الذي يفترض فيه أن تعمل على معالجة أوضاع الكيانات الهندسية الوطنية، وتعديل الأنظمة البالية التي أضعفتها وخنقت قدرتها على المساهمة بفعالية في مشروعات التنمية الوطنية. وعوضا عن أن تقف هذه الوزارة موقف المساند للكيانات الهندسية الوطنية، والمساند لجهود الهيئة السعودية للمهندسين لتنظيم المهنة والارتقاء بها، إذا بها تحاربهم بوقوفها موقف المساند لشركات أجنبية كل همها استنزاف موارد الوطن وتحويلها إلى الخارج. وأنا لا أدري في الحقيقة كيف يمكن لنا أن نطالب هيئة المهندسين بالقيام بدورها المأمول في الوقت الذي تواجه فيه مثل هذه الحرب الشعواء من أجهزة حكومية يفترض بها أن تشارك الهيئة وحدة الهدف وخدمة الوطن والمواطنين. السؤال هنا، هل يا ترى يقع هذا الملف ضمن اختصاص هيئة مكافحة الفساد، أم أنها هي الأخرى أضعف من أن ترفع صوتها بالاحتجاج على مثل هذا التستر المنظم الذي تمارسه بعض أجهزة الدولة؟