قبل أن نضع الخطة الخمسية العاشرة
أعتقد أنه من حسن حظ وزارة الاقتصاد والتخطيط أن يتهيأ لها التغيير القيادي في هذه الفترة التي تشهد تطوراً في مفاهيم التخطيط الاستراتيجي في السعودية. فقبل عقد من الزمن كان وضع الاستراتيجيات للمنظمات والجهات الحكومية يُعد إنجازاً تحتفل به تلك الجهات على أعلى المستويات. وفي تلك الحقبة تسابقت الوزارات والهيئات والمؤسسات العامة للتفاخر بأنها قد دشنت مشروع الخطة الاستراتيجية، أو أنها وضعت لها رؤية ورسالة وأهدافاً ستوصلها إلى عنان السماء. وأصبح حينها الحصول على وثيقة الخطة لازمة من لوازم التظاهر بالتطور والتقدم والقدرة على استشراف المستقبل. ولم يكن حينها أحد يسأل عن الحدود التفصيلية لتلك الخطة. ولم ينبري أحد ليناقش قدرة تلك الجهات على لوي أعناق النصوص لتوجهات الدولة كي تتوافق مع خططهم الاستراتيجية. ولم يكن يعباً المشاركون بمدى إمكانية التطبيق، كما لم يكن معظم المخططون يهتمون بآليات التنفيذ وآثار التغيير على بيئة العمل. وكان مصير جل تلك الاستراتيجيات التي أنفقنا عليها الملايين وتعاقدنا لإنجازها مع كبرى الشركات، كان مصيرها هو الأرفف الزجاجية المحنطة خلف المسؤول. تلك الأرفف التي يشير إليها بيده كلما أراد أن يباهي بإنجازاته، أو يبرر إخفاقاته. وأكاد أجزم أن معظم الجهات الحكومية لم تصل إلى مراحل تنفيذ الأنشطة، وجداول المسارات البرامجية، وتخصيص الميزانيات كما هو مدون بالخطة ومقرر في أدبيات التخطيط الاستراتيجي الصحيح. ناهيك أن عدداً من تلك الخطط قد زالت بزوال واضعيها، ووئدت بذهاب مبادريها خلافا لأهم مبادئ وأعراف وأصول التخطيط الاستراتيجي. واليوم لم يعد مقبولا من أجهزة الدولة ووزاراتها أن تضع خططاً تقتصر على الوثائق الورقية الصقيلة والمجلدات الوصفية القشيبة. فالوعي العام لدى الجمهور لم يعد يقبل المزيد من الوعود المستقبلية الحالمة، كما لم يعد يثق بالتخطيط طويل الأمد لأنه اعتاد بشواهد التاريخ على سرعة تغييره. هذا الوعي الجمعي سيكون بلا شك داعماً لوزارة التخطيط بروحها الجديدة وتطلعاتها المتفائلة أن تقود حراكاً تخطيطياً جديداً ومختلفاً عن ممارسات الماضي. وفي ظني أن البداية يجب أن تبدأ من التحول من منهجية التخطيط طويل المدى إلى منهجية التخطيط الاستراتيجي. فالوزارة منذ انطلاق مسيرة التخطيط الرسمي عام 1970 ومروراً بتلاحق إصدار خططها الخمسية حتى بلغت مشارف الخطة العاشرة وهي تتبنى منهجية واحدة لم تتطور تطورا منهجياً حتى اليوم. فهي تتبنى التخطيط الطويل المدى القائم على فلسفة الخط المستقيم المعتمد على الأهداف الموضوعة سلفا والمحددة بالاتجاه المستقر والمسافات الثابتة. وهو نظام تخطيط مغلق يغرق في المنهجية المعيارية المكبلة للإبداع والأفكار. فأصبحت نماذج التخطيط المكررة عبئا روتينيا وعملاً هامشياً يوكل إلى أدنى المستويات الإدارية لاستيفائه. والمتفحص لهذه لخطط الحالية ومن شارك في إعدادها يعلم أنها تفترض أن الاتجاه المستقبلي هو عبارة عن امتداد للوضع السابق، وبالتالي تحرص الجهات المشاركة كي تسير مع هذا الافتراض أن تضع نسبة نمو تخرصية تخضع في العادة إلى كرم المسؤول ويندر أن تكون تلك التنبؤات بالسالب أو عكس التنبؤ المفترض. حتى ما تم تسميته بالاستراتيجية بعيدة المدى للاقتصاد الوطني حتى عام 2024 فإنها لم تخرج من تلك المنهجية العتيقة. وما نأمله من الخطة العاشرة بعد 50 عاما من عمر التخطيط أن تكون هذه الخطة الخمسية قائمة على مبادئ التخطيط الاستراتيجي منهجا وتطبيقا.
نتطلع إلى أن تكون هذه الخطة قائمة على التفكير والإبداع لا على القوائم والنماذج. نتطلع إلى أن تركز على وضع الرؤية القائمة على دراسة البنية الخارجية بكل أبعادها ووضع المجالات التنافسية التي يمكن من خلالها إحداث التطوير المستقبلي وتحقيق معدلات الأداء الفعال والتحسين المستديم. نتطلع إلى أن تكون هذه الخطة قائمة على فلسفة اقتصادية محددة مبنية على آمال الدولة في تصنيف نفسها بين الدول. فلسفة قائمة على نقلنا بواقعية إلى الغاية المنشودة. فلسفة تحدد بكل وضوح وتجيب عن السؤال الكبير؛ إلى أين نحن نسير؟ وتبين لكل جهاز إداري بتفصيل وتحديد كيف يمكن أن نصل؟ فالاقتصاد المعرفي ما هو إلا توجه، والطاقة المتجددة ما هي إلا وسيلة، والنانو والبايو تقنيات تتغير بتغير الأزمان. ونحن اليوم لسنا في حاجة إلى اختراع العجلة من جديد، فالتجارب الدولية المتميزة حاضرة وبارزة ومنها سنغافورة وفنلندا وكوريا وماليزيا التي تتشابه بعض مكوناتها الديموغرافية مع مكونات البيئة السعودية، ولن يكفي أن ننشر نسخة مقلدة لوثائقهم العامة لنضعها على مواقعنا الرسمية في شبكة الإنترنت.