ماذا لو صرفنا «عمولات» للمفتشين الحكوميين؟
بعد سبات طويل، بدأنا نشهد في هذه الفترة صحوة ''رقابية'' تستهدف حماية المستهلكين والموظفين والمؤلفين. رأينا صولات وجولات من الأمانات و''التجارة'' و''الإعلام'' و''العمل'' على أفراد ومحال ومؤسسات تزاول أنشطتها في السوق بطرق مخالفة غير مكترثة بسلطة الحكومة وأنظمتها: مطاعم تبيع مأكولات فاسدة وتفتقر إلى مقومات النظافة يحضرها عمال غير نظاميين، محال تبيع منتجات مغشوشة، بائعون جائلون يعرضون علينا برامج وأفلاما منسوخة.
وكانت أقوى المداهمات ما قامت به ''أمانة الرياض'' حين أغلقت وغرمت مطاعم شهيرة عدة، آخرها قبل أيام حين أقفلت مطعما ذا خمس نجوم في طريق الملك فهد وغرمته 46 ألف ريال بسبب مخالفات صحية، وقبلها أقفلت سلسلة مطاعم أمريكية في إشارة واضحة إلى أننا جميعا لم نعد نحتمل الفوضى والاستهتار.
إذ مر علينا حين من الدهر لم نكن نحلم فيه - بسبب الفساد والبيروقراطية - أن يُغلق مقصف مدرسي فضلا عن مطعم ذي خمس نجوم. لكن الحمد لله بتنا نرى ''الشمع الأحمر'' و''ملصقات الإقفال'' على أبواب المنشآت المخالفة، وصور المفتشين متباهين بضبط المخالفات كما يفعل المنتصرون الظافرون بغنائم الحرب!
وإذا أخذنا البلديات كمثال، واطلعنا على سندها النظامي في ضبط المخالفات وهي ''لائحة الغرامات والجزاءات عن المخالفات البلدية'' الصادرة بقرار مجلس الوزراء ذي الرقم 218، وتاريخ 6/8/1422هـ، فإننا نلاحظ أنها تشتمل على 125 مخالفة تتعلق بالصحة العامة والبيع والبناء، تتفاوت غراماتها من 100 ريال إلى 30 ألف ريال. ويتم بحسب المادة الخامسة من تلك اللائحة تحصيل الغرامات المقررة وفقاً للإجراءات المتبعة في تحصيل الأموال العامة، أي أن الغرامات تودع كاملة غير منقوصة في خزانة الدولة.
أما التعليمات التنفيذية للائحة الغرامات والجزاءات عن المخالفات البلدية، فتنص في الفقرة (1/12) أن على كل بلدية أن تعين ''المراقبين'' المكلفين بضبط وإثبات المخالفات البلدية مع تعريفهم بواجباتهم ومسؤولياتهم والعقوبات التي تطبق عليهم في حالة تقصيرهم و''تشجيعهم بالحوافز المادية والمعنوية'' على تشديد الرقابة وإحكامها لمنع وقوع أي مخالفة. ورغم ورود عبارة ''تشجيعهم بالحوافز المادية والمعنوية''، إلا أن اللائحة ذاتها لم تحدد ماهية هذه الحوافز!
فالمفتشون (المراقبون) هم ''الجنود'' الذين يحاربون على الجبهة لفرض النظام ويصولون على المخالفين، ولهذا لا بد من مراعاة طبيعة عملهم الشاق ومكافآتهم على جهودهم المضنية، ولا سيما أنهم يتعرضون لضغوطات وإغراءات مستمرة.
والقاعدة البديهية تقول إنه إذا تلاقت ''منفعة'' تاجر فاسد مع ''انعدام ذمة'' مفتش، تشكل لدينا مشروع ''رشوة'' يقوم على إسكات الحق والتغاضي عن الباطل، قد يكون هذا المشروع مجرد وجبة تقدم للمفتش يوميا أو مبلغا من المال يدفع له شهريا من تحت الطاولة!
وسدا لمدخل الفساد هذا، وانطلاقا من تعزيز الدور الرقابي للجهات الحكومية، أتقدم لمجلس الخدمة المدنية والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد ووزارة المالية بمقترح لتحفيز المفتشين وتحصينهم عن طريق صرف عمولات من مبلغ الغرامات المحصلة من الأفراد والمحال والمؤسسات والشركات المخالفة. ويمكن أن تراوح العمولة بين نسبة 2.5 في المائة من مبلغ الغرامة للمفتشين الذين يتحركون بناء على ''بلاغ وارد'' من المواطنين أو المقيمين الغيورين (و2.5 في المائة لصاحب البلاغ مثلا)، إلى أن تصل تلك العمولة إلى 5 في المائة كاملة للمفتشين الذين يضبطون المخالفات أثناء جولاتهم الاعتيادية.
قد يبدو هذا المقترح ضربا من الجنون لبعض المسؤولين الحكوميين، خاصة أنه يمس أحد أهم ثوابت العقيدة البيروقراطية وهي ''تحصيل إيرادات الدولة'' التي تُجمع من جهات مختلفة وتصب في قناة واحدة هي خزانة الدولة (وزارة المالية).
إلا أن المقترح محاولة للتحرر من هذه البيروقراطية العقيمة وطرح حلول غير نمطية لمشكلاتنا النمطية. فمن المعروف أن القطاع العام يفتقر إلى الحوافز التي ترفع من إنتاجية الموظفين أو تحسن من جودة أعمالهم، ولذلك لم لا نغير هذا الوضع ونعامل المفتش الذي يضبط المخالفين كما نعامل موظف المبيعات الذي يعقد صفقة بيع؟ ماذا يضر أن نمنح ''عمولة'' من قيمة المخالفة لرجل المرور أو مفتش البلدية أو مفتش الإعلام؟ تخيلوا لو اعتمدت هذه ''العمولات'' سنرى كل المفتشين قد تركوا مكاتبهم ونزلوا في الأسواق والشوارع يتصيدون المخالفين.
إن الحكومة تستطيع أن تعتمد صرف عمولات للمفتشين الحكوميين من الغرامات المحصلة عن طريق إجراء ثلاث خطوات رئيسة:
- الخطوة الأولى (قانونية/ مالية): تعديل نظام إيرادات الدولة الصادر بالمرسوم الملكي ذي الرقم م/68، وتاريخ 18/11/1431هـ، بحيث يجيز للجهة الحكومية التي تحصل الغرامات الاحتفاظ بنسبة معينة منها (مثلا 10 في المائة) بمثابة مصروفات إدارية تتضمن العمولات التي ستصرف للمفتشين الذين ضبطوا المخالفات.
- الخطوة الثانية (تنظيمية): حصر كل الجهات الحكومية المخولة بالتفتيش والرقابة بدءا من الأمانات والبلديات، مرورا بالتجارة والصناعة، والثقافة والإعلام، والعمل، والتأمينات الاجتماعية، والمرور، والدفاع المدني، وانتهاء بالجمارك، وحصر أنظمتها ولوائحها التي تنص على المخالفات الواقعة تحت اختصاصها والغرامات المالية لكل مخالفة، والهدف من هذه الخطوة معرفة ''الجهات الحكومية'' التي سيخضع مفتشوها لنظام ''العمولات'' الذي سيصدر في الخطوة الأخيرة.
- الخطوة الثالثة (قانونية/ إدارية): قيام مجلس الخدمة المدنية، وهو المعني بدراسة ووضع سياسات وأنظمة موظفي القطاع العام ومنها سلالم الرواتب والمكافآت، باعتماد نظام يقنن ''صرف عمولات'' المفتشين الميدانيين في الجهات الحكومية المخولة بالتفتيش والرقابة. فنحن لا نطالب بسلم رواتب للمفتشين يضاف إلى سلالم الرواتب في القطاع العام التي تبلغ 18 سلما. وإنما نريد أن يُعامل المفتشون كما يُعامل موظفو المبيعات في الشركات ممن يحصلون على دخل شهري ثابت مضمون، لكنه قليل مقارنة بالعمولات العالية التي يقبضونها على أساس جهودهم في البيع.
إن تخصيص نسبة بسيطة من قيمة الغرامات التي تفرضها الجهات الحكومية للموظف الميداني (المفتش)، سيعزز الدور الرقابي للحكومة ويحد من حالات الفساد، لأن عمولة بالحلال خير من رشوة بالحرام!