مشروعات وزارة الإسكان تحت المجهر
ملتقى الرياض للعقارات الذي عُقد في الأسبوع قبل الماضي حمل فرصة للحضور للاطلاع على مشروعات وزارة الإسكان الجاري تنفيذها في الوقت الراهن، التي بلغ عدد وحداتها السكنية الإجمالي أكثر من 16 ألف وحدة موزعة على عدد من المواقع في أنحاء المملكة. فريق الوزارة الهندسي قدم في إحدى جلسات الملتقى عرضا مصورا مسهبا عن هذه المشروعات، وهو العرض الذي كان موضوعا لنقاش معمق من حضور تلك الجلسة، خاصة من المختصين في مجال البناء والتنمية العمرانية. والمعلوم أن هذه المشروعات تمثل باكورة مشروعات الوزارة التي بدأ العمل عليها ضمن مهمة هيئة الإسكان قبل تحويلها إلى وزارة للإسكان، وهي التي كانت قد أعلنت في ذلك الحين تخطيطها لإنشاء نحو 26 ألف وحدة سكنية ضمن برنامجها الأولي لمعالجة أزمة العرض في سوق الإسكان في المملكة، وهو البرنامج الذي تم دعمه في وقت لاحق بمنحة المقام السامي لإنشاء 500 ألف وحدة سكنية خصص لها مبلغ 250 مليار ريال، بخلاف الميزانية المخصصة لإنشاء الدفعة الأولى من وحدات البرنامج. مسألة قيام الوزارة بمهمة البناء المباشر لهذه الوحدات ما زالت محل تحفظ من الكثيرين من المختصين والكتاب، وأنا منهم، حيث إن الكثيرين يحملون قناعة راسخة بأن الوزارة يجب أن تقوم بدور المنظم والمشرع والمراقب لهذا القطاع، وأن توكل مهمة البناء إلى شركات التطوير العقاري المتخصصة عبر شراكات محددة المعالم مع القطاع الخاص. وحتى تصل الوزارة إلى تبني هذا المنهج، فإنها على الأقل مسؤولة عن تنفيذ هذه المشروعات بما تتطلبه من جودة نوعية يمكن أن تؤسس نموذجا يحتذى من قبل شركات التطوير العقاري. وفي هذا الإطار، فإنني أعرض في هذا المقال تقييما فنيا لهذه المشروعات التي عرضتها الوزارة، متطلعا إلى أن يسهم هذا التقييم في تطوير مستوى العمل في بقية مشروعات الوزارة. وإذا كانت هذه المشروعات قد تم العمل على إنجازها تحت وطأة الضغط الرسمي والشعبي والإعلامي الذي دأب على مطالبة الوزارة بسرعة الإنجاز، إلا أن هذا الضغط يجب ألا يكون سببا في إنتاج مشروعات رديئة متدنية المستوى، خاصة في ظل استعانة الوزارة بشركة بارسونز العالمية لتولي مهمة تقديم الخدمات الاستشارية لمشروعاتها المقبلة، على الرغم من التساؤلات المثارة حول نظامية هذا التعاقد.
الصفة الأولى التي اتسمت بها مشروعات الوزارة التي رأيتها في العرض كانت النمطية الطاغية على كل المستويات، فمن الناحية التخطيطية لم تخرج المشروعات عن نموذج التخطيط الشبكي التقليدي الذي نراه في كل مشروعات التطوير العقاري التقليدية، الذي يتبنى سيطرة السيارة على منهج التخطيط. وما زالت قطع الأراضي الموجهة لبناء الفلل السكنية بمساحات كبيرة أساسا لهذا المنهج، مع كل ما يحمله من هدر في الأراضي والموارد. صفة النمطية امتدت لتطبع أيضا تصاميم الوحدات السكنية في هذه المشروعات، فجميع الوحدات السكنية متماثلة في الطابع والتصميم المعماري في إغفال تام لكل المؤثرات البيئية والطبيعية والجغرافية والاجتماعية والثقافية التي تتباين من موقع إلى آخر ومن منطقة إلى أخرى. قد يكون السبب وراء هذا الخلل قيام الوزارة بتبني نموذج محدد للوحدة السكنية دون فهم ودراسة شرائح وفئات المستخدمين، إذ إن الوزارة لم تتمكن حتى الآن من تحديد فئات ونوعيات هؤلاء المستخدمين، ولا حتى آلية توزيع الوحدات السكنية عليهم. وبالتالي، فإن الوزارة وضعت نفسها في موقع التصميم الجزافي الذي سيؤدي حتما إلى كثير من الخلل والهدر في تلبية احتياجات المستخدمين عند توزيع الوحدات عليهم. حتى لو قبلنا بهذا الواقع، فإنه من غير المقبول أن تكون جميع الوحدات السكنية في هذه المشروعات متماثلة إلى حد التطابق الممل والممجوج، سواء كان المشروع واقعا في سهل أو على جبل أو قريبا من البحر، وسواء كان في أي من مناطق المملكة التي يملك كل منها رصيدا ثمينا من الثقافة والطراز العمراني المحلي المميز لكل منها.
الصفة الثانية التي طبعت هذه المشروعات هي تبنيها منهج البناء التقليدي الشائع باستخدام الخرسانة المسلحة والصب في الموقع، مع كل ما يحمله هذا المنهج من هدر في الموارد والوقت وجودة التنفيذ. والغريب أن النمطية التي تبنتها الوزارة في تصميم الوحدات السكنية كان يجب أن تكون دافعا لتبني أنظمة بناء حديثة تستخدم المعيرة والنمذجة أساسا للبناء، لتحقيق الفائدة المرجوة في رفع الجودة وخفض التكاليف ومدد البناء وتقليل الاعتماد على العناصر البشرية في البناء بما يؤدي إلى تخفيض الأخطاء الفنية في التنفيذ. إن هذا العدد الكبير من الوحدات السكنية التي تقوم الوزارة ببنائها يمكن أن يكون وسيلة لاختبار وتجربة العديد من أنظمة البناء المتقدمة التي يجري تطبيقها في أنحاء كثيرة من العالم، خاصة أن الوزارة تتمتع بقدرة لا تملكها شركات التطوير العقاري التي تتذرع دوما بعدم استطاعتها تحمل مخاطر تقديم أنظمة جديدة قد لا تقبلها السوق. ولو أن الوزارة تبنت هذا المنهج فإنها بذلك لن تحقق ارتقاء بمستوى ونوعية وحداتها السكنية فحسب، بل إنها ستسهم في تغيير ثقافة السوق، وتصحيح المفاهيم العامة للمستخدمين تجاه النمط التقليدي السائد في البناء.
الجانب الأهم الذي وجدته غائبا في منهج الوزارة غياب مفهوم إدارة المشروعات وإدارة التنفيذ في مشروعاتها القائمة والمقبلة، وهو ما يعود في الأساس إلى اضطرارها إلى العمل وفق نظام المشتريات الحكومية البالي، خاصة أن وزارة المالية لم تتمكن حتى الآن من تنفيذ التوجيه السامي بتطبيق منهج إدارة المشاريع في مشروعات التنمية. والحقيقة أن حالة النمطية والتماثل التي تطبع مشروعات الوزارة تمثل دافعا لتبني هذا المنهج، وهو ما سيمكن الوزارة من تحقيق سيطرة كبرى ووفر مادي هائل في إدارة المشتريات المركزية لمواد وعناصر البناء على سبيل المثال. وإذا كانت الوزارة قد تمكنت من تجاوز الأنظمة في مسألة التعاقد مع شركة بارسونز لتحقيق هدفها في الاستعانة بخبرة عالمية متخصصة، فإنها لن تألو سبيلا لإيجاد وسيلة تمكنها من استباق تعثر وزارة المالية في تبني منهج إدارة المشروعات وتطبيقه على مشروعات الإسكان إن هي آمنت بحتمية وجدوى تطبيقه في هذه المشروعات.
خلاصة القول، وزارة الإسكان تحمل أمانة ومسؤولية كبرى في هذه القضية، وهي مسؤولية تتجاوز مسألة الكم إلى الكيف في تنفيذ المشروعات. والأكيد أن الوزارة لم تتمكن حتى الآن من الخروج عن نمطية منهج البناء التقليدي الذي أظهرها في صورة المطور العقاري الرديء. وهي الآن مطالبة بفهم الدروس المستقاة من تجاربها وتجارب الآخرين السابقة، وأن تعمد إلى تبني مفاهيم جديدة مختلفة في بناء مشروعاتها المقبلة، هذا إذا استسلمنا مرة أخرى لحتمية قيامها بالبناء المباشر لهذه المشروعات.