وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ
أن يصل إلى مطار الدمام نخبة من الأطباء الأكفاء من داخل المملكة وخارجها للمشاركة في مؤتمر إنساني لخدمة البشرية يوم الأربعاء الماضي، فهذه بادرة طيبة. وأن يشارك هؤلاء الأطباء لدفع خبراتهم مع العاملات والعاملين في وحدات العناية الطبية في المنطقة الشرقية، فهذه مبادرة نبيلة من القائمين على الجمعية السعودية لتنشيط التبرع بالأعضاء في المنطقة الشرقية ''إيثار''.
لعلي أركز على ما كشفته الدكتورة حنان الغامدي، نائبة رئيس مجلس إدارة جمعية ''إيثار'' ورئيسة المؤتمر نقلاً عن إحصائيات المركز السعودي لزراعة الأعضاء أن ''نسبة الأعضاء المستأصلة من متوفين دماغيا لم تتجاوز 105 حالات في السنوات الخمس الماضية أي بواقع ثلاث حالات لكل مليون نسمة مقارنة بـ 36 حالة لكل مليون في إسبانيا''، أي أن المملكة تحتل مرتبة متأخرة على المستوى العالمي. تشير الإحصائيات لوجود 16 ألف مريض على قائمة الانتظار في المملكة يحتاجون إلى زراعة الكلى منهم ألفا مريض في المنطقة الشرقية.
هذه الإحصائيات علمية ودقيقة، لكن العمل يجب ألا يتوقف هنا. لهذا السبب، جاءت مبادرة رئيس جمعية ''إيثار'' عبد العزيز التركي لإقامة هذا المؤتمر متوافقاً مع سلسلة من النشاطات التثقيفية للمجتمع عن التبرع بالأعضاء. رؤيتنا في جمعية ''إيثار'' هي تحقيق الريادة في أساليب تنشيط التبرع بالأعضاء وتطويرها من خلال توعية المجتمع وأن تكون الجمعية رائدة في نشر ثقافة العمل التطوعي. أما أهدافنا فهي تنطوي على ثلاثة محاور رئيسية وهي المتبرع والمتلقي، المجتمع، والكوادر الصحية.
هل تعلمون يا سادة أن في المنطقة الشرقية يوجد أكثر من 700 مريض سعودي بالفشل الكلوي يواجهون مشكلة الحصول على أعضاء من متبرعين لزراعتها والاستفادة منها؟ زراعة الأعضاء هي العلاج الوحيد للفشل العضوي والتدخل الوحيد لإنقاذ الحياة. قد تكون هذه مناسبة مواتية لأحدثكم بالأرقام. تبلغ تكلفة جلسة الغسيل الدموي لمريض الفشل الكلوي أكثر من 70 ألف ريال سنوياً، إضافة إلى أن تكلفة متابعة حالة المريض والأدوية قد تصل إلى مبلغ 50 ألف ريال سنوياً. بعيداً عن الأرقام، أعتقد أن المؤتمر أسهم لدرجة كبيرة في إكساب الخبرة عن كيفية التعامل مع المشاكل التي يتعرض لها المتوفى دماغياً، وسرعة تشخيص الوفاة الدماغية والتبليغ عنها، وفن التعامل مع الأقارب وسبل إقناعهم.
ناقشنا ضرورة التنسيق بين مراكز الطوارئ في مستشفيات المملكة ومراكز زراعة الأعضاء كون الفترة التي يتم نقل العضو فيها قصيرة جداً لا تتعدى الساعات قبل فقدان حيويته. لا أخفيكم أن تلك المراكز تعاني قلة أعداد المتبرعين تقابلها أعداد كبيرة جداً من المرضى الذين هم في أمس الحاجة إلى الاستفادة من نقل الأعضاء.
كذلك ناقشنا ضرورة وضع علامة على رخصة قيادة من وافق على تبرعه بأعضائه كي يسهل الوصول إليه وهذا سيكون حافزا لكثير من المتبرعين وقطع الطريق على المتاجرين بالأعضاء. المملكة وقعت على اتفاقيات دولية تجرم المتاجرة بالأعضاء، وحان الوقت لأن تتكاتف الجهود الرسمية والمدنية بما فيها المرور والإعلام والجمعيات الخيرية لإنقاذ حياة أشخاص هم في أمس الحاجة إلى المساعدة. كذلك علينا توعية المجتمع بطريقة سهلة ومفهومة بحيث يمكن استيعابها من الأفراد العاديين، ما تثير دافعيتهم للعمل التطوعي.
أمامنا تحديات جسيمة، لكننا - بإذن الله - عازمون على تخطيها. هناك عزوف من بعض السعوديين عن التبرع لفهمهم الخاطئ لمبدأ التبرع بالأعضاء رغم وجود فتوى (رقم 99 وتاريخ 6/11/1402هـ) من هيئة كبار العلماء تجيز التبرع بالأعضاء. كذلك هناك قرار من مجمع الفقه الإسلامي (رقم 5 وتاريخ 3/7/1986م) بشأن أجهزة الإنعاش. لا شك أن مهمة إقناع الآخرين ليست سهلة لأنها تحتمل النجاح أو الإخفاق، وهذا على مستوى العامة، فما بالك بالوصول إلى قلوب وعقول الآخرين والحصول منهم على موافقتهم للتبرع بأعضاء من أجسامهم لإنقاذ حياة الآخرين؟ ولعلي أذَكر بما أكده سماحة مفتي عام المملكة رئيس هيئة كبار العلماء الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ أن من يحتاج إلى زراعة كلية فإن مساعدته على التبرع إذا خشي عليه الهلاك هو إنقاذ للنفس والله يقول (ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا) وهو عمل خير ومبارك يدل على الإحسان والرحمة.
أما بطاقة التبرع فهي قصة أخرى. يحصل المتبرع على بطاقة التبرع بالأعضاء لكنها من الناحية القانونية لا تخول هذه البطاقة استئصال الأعضاء دون الرجوع لذوي المتوفى دماغيا، حيث لا بد من أخذ موافقتهم على إقرار التبرع بالأعضاء. وجود البطاقة ومعرفة رغبة الشخص أثناء حياته يسهل كثيرا على ذويه أخذ القرار واحترام رغبة المتوفى في استئصال أعضائه.
يعتبر التبرع من المتوفين دماغيا مصدرا أساسيا لا غنى عنه للتبرع بالقلب والرئتين والكبد والقرنية. تقدر حالات الوفاة الدماغية في السعودية بألف حالة سنويا يمكنها أن تؤمن احتياجات السعودية من الأعضاء إذا ما تم تشخيص هذه الحالات مبكرا من قبل الأطباء وإذا تمت الموافقة على التبرع بالأعضاء من كل أسر المتوفين دماغيا. لكن – مع الأسف - لا يتم التعرف والتبليغ إلا عن نحو 700 حالة سنويا من مختلف المستشفيات في السعودية ويتم توثيق تشخيص الوفاة الدماغية في 70 في المائة من الحالات، بينما يوافق ذوو المتوفين دماغيا في نحو 30 في المائة فقط من الحالات الموثقة.
أما الجندي المجهول الذي أحمله مسؤولية نجاح المؤتمر فهو مدير الجمعية الدكتور شادي أنيس. حَمَلَ هذا الرجل على عاتقه بإدارته المميزة وأخلاقه الحميدة المعهودة مسؤولية إقامة المؤتمر بنجاح يستحق العرفان والتقدير.
متبرع واحد متوفى دماغياً يمكن أن يفيد تسعة أشخاص ويوفر عددا لا محدودا من الأنسجة، كما أنه يعزز فرص الشفاء والحياة - بإذن الله - لمرضى الفشل العضوي على قوائم الانتظار .. فماذا تنتظرون؟