كم عدد «المجدفين» في هيئة مكافحة الفساد؟

لا بد أنكم تعرفون سر تفوق فريق التجديف الياباني على نظيره العربي!
لأولئك الذين لا يعرفون القصة الإدارية، سأرويها لهم..
يحكى أن سباقا جرى بين فريقي تجديف ''ياباني'' و''عربي''. ورغم أن الفريقين متماثلان في حجم القارب ونوعية المجاديف وعدد الطاقم - تسعة أفراد في كل فريق - إلا أن الفريق الياباني فاز في نهاية السباق.
وكالعادة أصيب ''بنو يعرب'' بخيبة أمل، فأقاموا ''المناحات'' وفسروا الأمر على أنه نكسة سياسية أو نكبة رياضية أو مؤامرة خارجية حالت دون النصر المظفر. لكن أحد حكمائهم كان يتفرج بمنظاره منذ بداية السباق، فصاح في قومه أنها ليست مؤامرة أو مكيدة ''خارجية''، بل إن العلة ''داخلية''!
فالفريق الياباني تشكل من مدير للفريق وثمانية مجدفين، فيما كان الفريق العربي يتألف من مجدف واحد وثمانية مديرين (مدير عام التجديف، وثلاثة مديري إدارات، وأربعة رؤساء أقسام)، كلهم كانوا يصدرون الأوامر للمجدف (المسكين) الذي فصلوه من عمله لأنهم اعتقدوا أنه المتسبب في الهزيمة!
استحضرت قصة السباق عندما اطلعت على الهيكل التنظيمي لـ ''الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد'' (نزاهة) المنشورة في موقعها على شبكة الإنترنت. وصعقت من ضخامة هيكلها التنظيمي (60 مستطيلا)، وكثرة المديرين، رغم أنه لم يمض على الهيئة سوى عام واحد، فالجهاز الذي يتألف من ثلاثة قطاعات رئيسية (مكافحة الفساد، وحماية النزاهة، والخدمات المساندة)، يشرف عليه عدد كبير من المسؤولين موزعين كالتالي:
• رئيس للهيئة
• نائبان للرئيس
• مساعد واحد للرئيس
• أربعة مساعدين لنواب الرئيس
• 11 مديرا عاما
• أربعة مديري مكاتب
• 34 مدير إدارة
هل نحتاج إلى هذا العدد الكبير من المديرين؟ وهل تهدف الهيئة إلى الحد من البطالة أم الفساد؟ إذا كان كل من في الهيئة ''مديرا''، فأين هو ''طاقم المفتشين والمراقبين''؟ من الذي سيجدف القارب؟ وإن كان هذا هو تشكيل الهيئة ذات العام الواحد، فكيف نلوم الوزارات العتيقة؟ ماذا عن الأجهزة الرقابية الأخرى التي تتجاوز الهيئة عمريا.. هل هي مترهلة إلى هذا الحد؟ كيف أعدت الهيئة هيكلها التنظيمي؟ وما المعايير التي بُني عليها؟ وكيف تتم آلية البلاغ والتحريات؟ هل تسير من مدير إلى مدير إلى مدير في سلسلة طويلة حتى يفر الفاسد؟ أين نصيب المناطق من فروع للهيئة؟
من وجهة نظري، أعتقد أن الهيئة لن تستطيع محاربة الفساد بالبيروقراطية. مثلا، الهيئة لديها ''إدارة عامة'' قائمة تختص ''فقط'' بإقرارات الذمة المالية والقسم الوظيفي. ألا يمكن أن يُسند هذا الدور لإدارة عامة أخرى؟ كما أن هناك إدارة للعلاقات العامة في الهيئة، إضافة إلى إدارة للتوعية والإعلام، وإدارة للندوات والمؤتمرات، وإدارة لتشجيع برامج حماية النزاهة، أي أن هناك أربع إدارات ذات اختصاص إعلامي. فكم حجم العمل في هذه الإدارات؟ أسبوعيا؟ شهريا؟ سنويا؟
في المقابل، نجد أن ''إدارة المشتريات والعقود'' في الهيئة تندرج ضمن الإدارة العامة للشؤون المالية، وهذا يتنافى مع التوجه التنظيمي الذي تتبعه الكثير من المؤسسات من فصل ''المشتريات'' عن ''المالية'' منعا لتضارب المصالح والصلاحيات. فعمليات الشراء يجب ألا تتم تحت مظلة المسؤولين عن قيد الحسابات، وإلا كان ذلك مدخلا من مداخل الفساد.
كما أننا لا نرى في هيكل الهيئة أي إدارة معنية ببرامج أو مبادرات الحكومة الإلكترونية. المفترض أن تكون الهيئة من كبار مناصري برنامج الحكومة الإلكترونية (يسِّر). إذ دائما ما نقول إن الخدمات الإلكترونية إذا بُرمجت على أسس ومعايير سليمة وثابتة وعادلة ستكون خدمات محايدة، لن تمارس الفساد الإداري أو المالي. ولعل أبرز مثال يؤكد صحة هذا التوجه عملية ''نقل المعلمات'' التي كان يحيطها ''فساد صريح'' في عهد ''الرئاسة العامة لتعليم البنات''، لكن عندما قامت وزارة التربية والتعليم بإلغاء التدخل البشري في نقل المعلمات، وتحولت إلى الخدمات الإلكترونية، قضت على حالات الفساد.
عودة إلى ''المجدفين''، فقد طرحت قبل تسعة أشهر في ''الاقتصادية'' (العدد 6545) مجموعة مقترحات في مقالي عن الهيئة ودورها المأمول في مكافحة الفساد، وهو الدور الذي يتلهف عليه كل مواطن مخلص يحلم بالنزاهة والشفافية، كان من بينها مقترح التنسيق مع وزارة الداخلية والنظر في نقل ''المباحث الإدارية'' من الوزارة إلى الهيئة للأسباب التالية (مع التركيز على النقطة الثالثة):
• توحيد جهود المباحث الإدارية والهيئة في مكافحة الفساد.
• تفرغ المباحث العامة، عند فصل المباحث الإدارية، لتناول القضايا الأمنية والإرهابية بشكل كامل.
• حاجة الهيئة أصلا إلى ''طاقم رقابي ميداني'' يساعدها على أداء دورها الرقابي بفاعلية عند تلقي البلاغات أو التحريات الأولية أو التحقيقات الإدارية.
• تمتع رجال المباحث الإدارية بخبرة طويلة في التعامل مع قضايا الفساد الإداري والمالي.
واقترحت كذلك أنه لو تمت الموافقة على نقل المباحث الإدارية من الوزارة إلى الهيئة، فمن الممكن النظر في نقل ''وحدة التحريات المالية'' من الوزارة إلى الهيئة. وكنت أرمي من هذا المقترح تزويد الهيئة بطاقم رقابي ميداني .. مثلهم مثل المجدفين أو الجنود الذي يحاربون على الجبهة، وهؤلاء يجب أن يكونوا الأكثر عددا وتأهيلا لتصدي لحالات الفساد الإداري والمالي لدينا.
أتساءل وأنا لا أزال مذهولا من النمو المفرط للهيئة، ألا يمكن أن تكون – وغيرها من الأجهزة الحكومية - مؤسسة مسطحة flat organization؟ مؤسسة تقل فيها الارتباطات/ المستويات الإدارية (المديرون)، ويكثر فيها موظفو الخطوط الأمامية، وبالتالي تتسم بالرشاقة في الشكل، والمرونة في العمل، والسرعة في الاستجابة لمتطلبات العملاء (المراجعين) .. ألا يمكن تحقيق ذلك؟

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي