قف للوطن وفِّه التبجيلا

كنا نختم طابور الصباح بفقرة النشيد الوطني، وما إن تبدأ حناجرنا الفتية بترديد ''سارعي''، حتى يقف المدير في مقدمة الساحة ملوحا بيده الغليظة طالبا منا رفع أصواتنا بالنشيد، في الوقت الذي كان بعض المعلمين يمرون من بين الصفوف بعيدا عن أنظار المدير، هامسين في أذن كل واحد منا: ''لا تنشد''!
ضعنا وسط هذا الانقسام ''الأيديولوجي'': تيار يريد إحياء ''الروح الوطنية'' في نفوس الطلاب (إدارة المدرسة)، وتيار يناهض فكرة ''الوطنية'' جملة وتفصيلا، ويعارض أشكالها ورموزها كالعلم والشعار والنشيد والسلام الوطني (معلمون متزمتون).
كنا وقتئذ في المرحلة الإعدادية، في فترة جاءت بعد ثلاثة أعوام من إقرار النشيد الوطني السعودي، وقبل إقرار تدريس ''التربية الوطنية'' بسبعة أعوام (هل اتضحت الفترة؟)، ومنذ ذاك الموقف الذي شرخ مرايا الذاكرة، علمت أن ''الوطنية'' شعور لا يدركه البعض، وأنا الذي كنت أحسبه شعورا يسري في عروقنا مع خروجنا لهذه الدنيا.
كان بعض ''معلمي الإعدادية'' يجمعون الطلاب وينظمون لهم رحلات إلى ''الخلاء''، إلى مناطق خارج الرياض، حيث يتم في هذه الرحلات غرس أفكار لم تكن إدارة المدرسة على دراية بها.. أفكار من نوع ''أننا لا ننتمي إلى وطن بعينه، ولا يجدر بنا ذلك، لأننا ننتمي إلى الأمة''.. ولم أكن أفهم حينئذ كيف تنتمي إلى الدائرة الكبرى (الأمة)، وأنت متنصل من الدائرة الصغرى (الوطن)!
ومن هذا المنطلق، لم يكن في قاموس ''منظمي رحلات الخلاء'' وخطابهم الديني شيء اسمه ''وطنية'' أو ''هوية وطنية'' أو ''ولاء أو انتماء للوطن''، كانت أفكارهم تعمل على تكريس ''انفصام الهوية'' في نفوسنا، ما يجعلنا فيما بعد فريسة مكسورة وخانعة تستعد لتنفيذ ''أجندة'' الذئاب التي ستنهش عقولنا كما تشاء!
قرر والدي – رحمه الله - منعي من المشاركة اعتبارا من الرحلة الثانية أو الثالثة، وأبلغ إدارة المدرسة مخاوفه من تلك التجمعات التي تعقد خارج أوقات الدراسة، وتضايقت من قراره الحازم لأني رأيت فيه تقييدا لحريتي.. كنت أظن أنها مجرد ''نزهة بريئة'' مع الزملاء والمعلمين، فلماذا نحرم منها؟ ولم أدرك أن والدي - بما يملكه من خبرة وبعد نظر – كان يعلم ما لا أعلم.
التحقت بالمرحلة الثانوية، وكانت محطة حاسمة في حياتي، نضجت فيها وابتعد عنا تأثير ''منظمي الرحلات''، بفضل الله ثم بفضل الإرشاد الأبوي. ومنذ ذلك الحين، وإلى اليوم وأنا أتساءل: ترى كم من طالب (ضحية) استمالته مثل هذه التيارات وغسلت مخه بأفكار مشبوهة كي تحضره للانقلاب على وطنه وأهله يوما ما؟ وكم هم الذين ركبوا ''السفينة'' مثلي ونجوا من طوفان ''الثمانينيات'' هذا؟
إنها مرحلة من تاريخنا وحياتنا، يجب ألا تمر دون دراسة، ومن حق الوطن أن نقدم له ''الإجابات'' لكثير من الأسئلة: لماذا كان ذلك مسارنا ومسلكنا؟ ولماذا يبادل البعض الوطن بالجحود والعقوق؟ ولماذا ننشغل ونشغل أجيالنا في مناقشة قضايا لا تخدم الوطن، بينما غيرنا يركزون على بناء أوطانهم، ويغتنمون الزمن الذي لا يعوض في تسريع عجلة التنمية.. أليس هدرا أن نواصل الخوض في جدليات تشرخ تماسكنا ولا تعززه، قضايا تجاوزتها الأمم واعتبرتها من ''المسلمات''، وأصبحت جزءا لا يتجزأ من مقومات الدولة الحديثة: هل نقف احتراما للسلام الوطني أم لا؟ هل نؤدي التحية للعلم السعودي أم لا؟ هل نحتفي باليوم الوطني أم لا؟ هل ندرس ''التربية الوطنية'' في المدارس أم لا؟
لقد خسرنا كثيرا وسنخسر إذا لم نعزز الشعور بـ''الانتماء الوطني'' في نفوس الأجيال الصاعدة، خاصة تلك التي لا تعرف من الوطنية إلا التمايل وتلويح ''الخفاق الأخضر'' إذا تبارى المنتخب في بطولات خارجية.
''الوطنية'' التي نود أن نزرعها، أسمى وأكبر من ذلك، هي شعور (حب) لهذه الأرض الطاهرة وقيادتها وشعبها، إنها ''عشق'' يترجم من خلال سلوكيات عدة..
''الوطنية'' تجعلنا نستثمر القيم النبيلة التي أوصانا بها الإسلام استثمارا ينفعنا في بناء الأوطان لا في هدمها أو في هجرتها للارتماء في أحضان منظمي الرحلات وقاطني الكهوف.
''الوطنية'' تحتم علينا إعادة صياغة الخطاب الديني الذي كان يرى انفصاما بين الانتماء الديني والانتماء الوطني.
''الوطنية'' عشق يجعلنا نمارس عادات إيجابية في البيت والمدرسة ومكان العمل والشارع تقوم على احترام النفس واحترام الآخرين، وتبعدنا عن مظاهر الهمجية والتخلف التي لا تليق بهذا الوطن.
''الوطنية'' عشق يحولنا إلى ''مواطنين صالحين''، مسالمين لا خانعين، بشوشين لا أفظاظ، أمناء ومخلصين في أعمالنا، محافظين على موارد الوطن وإنجازاته ومكتسباته، لا نركع ولا نلين أمام ''العمولات'' و''رشا المال والعسل''، ولا نتاجر بكرامة الوطن ببيع الذمم أو التأشيرات أو الممنوعات.
''الوطنية'' أن نربأ بأنفسنا عن أي معيار غير وطني في مناحي الحياة والعمل كافة، أن ننبذ كل أشكال التعصب الديني والقبلي والمناطقي حتى الرياضي.
''الوطنية'' أن نحافظ على سمعتنا في الخارج، فلا نرتكب ما يخدش كبرياء هذا الوطن المعطاء.
هذه هي ''الوطنية'' التي علمني إياها والدي..
وها هو ذا رحل عنا منذ زمن..
ورحل معه المدير والمعلم المتزمت..
وسنرحل جميعا..
سيبقى شعورنا بـ ''الوطنية'' يتوارث جيلا بعد جيل..
سيبقى الوطن شامخا..
سيبقى شاهدا على كل قصة إحسان أو إساءة في حقه.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي