الفساد.. يتسلل بهدوء مفزع
الفساد كلمة مقيتة، وهكذا كل ما جر إليه من قول أو عمل، ولست بصدد بيان آثاره وأضراره، فنحن في بلد العلم والعلماء الذين طالما حذروا منه ووقفوا له بالمرصاد، وقد انتبهت دول العالم لخطره، وشرعت من أجل دحره القوانين، وشمرت له السواعد بالحرب والنفير، وهكذا تجد أنه كلما ارتفع نجم أمة، أو علا شأنها، فإنما يعود سبب ذلك إلى قمع الفساد، ودفنه في مهده.
وحينما نسلط الضوء على مملكتنا العزيزة، فإن أول ما سيشرق لنا في هذا المجال قرار مليكنا المفدى بإنشاء هيئة مكافحة الفساد التي مضى على تأسيسها عاما ونصف العام، ولأن للفساد ألوانا وصورا وأشكالا وفنونا ــــ إذا صح التعبير ـــ فلا يمكن الجزم بنهاية الفساد عندنا، وإنما لا يزال فيه بقية باقية تتجدد بحسب الظروف والأحوال وغفلة الرقيب من الناس.
ومن هذا الأمر الوبيل، والداء العليل تتصدر الرشوة جدول الفساد!، ولا أعتقد أني في حاجة إلى كبير جهد لبيانها، فذاكرة المجتمع تزدحم بمثل هذه الصور، مع أن الجميع يعلم أن نبي هذه الامة العظيم ـــ صلى الله عليه وسلم ــــ «لعن الراشي والمرتشي والرائش» الذي يسعى بينهما.
إن أشكال الرشوة في مجتمعنا اليوم كثيرة، لكنها ارتدت أغطية أخرى، كهدية الموظفين التي تشمل عادة: جوال وجهاز كمبيوتر محمول وتذاكر سفر وغيرها"، وعلى سبيل المثال لا الحصر في القطاع الطبي نرى بعض الشركات التي تعمل في هذا المجل تقدم تذاكر سفر مع إقامة لطبيب معين هو وأفراد عائلته للذهاب إلى مؤتمر في دولة أجنبية لا تتعدى ثلاثة أيام، بينما تمتد الرحلة لمدة أسبوع مقابل أن يسهل الدكتور لهم إجراء معينا إن كانت هذه الشركة تعمل في مجال الأجهزة الطبية، مثل أن يطلب من المستشفى الذي يعمل فيه شراء هذا الجهاز من هذه الشركة على وجه الخصوص، ويبقى السؤال قائما: هل هذه رشوة؟
وفي مجال المقاولات مثلاً ترى أن الشركة تشتري سيارات وتوزعها على الموظفين من جهة حكومية معينة بحجة أن هذه السيارات تستخدم في فترة المشروع، لكن بعد انقضاء المشروع تجد أن هذه السيارة تحولت إلى ملك صرف لهذا الموظف بلا نكير!
لقد أصبحت المشكلة اليوم أكبر من ظاهرة، أنها تكاد أن تكون ثقافة مجتمع وهذا هو السرطان الذي يهدد المملكة، وهذا بالفعل جزء من الخطر الشامل، فعندما يتحول اسم الرشوة إلى هدية، وتقيد في دفاتر الشركات كذلك، فإن هذا السلوك لا يعكس غير إننا بتنا لا نخاف رقيباً في الدنيا ولا الآخرة!
وأكثر ما أستغرب تلك الفتوى التي أفتى بها بعض المشايخ ـــ هداهم الله ـــ أنه إذا كان لك حق وهناك من وقف في طريقك بمنع هذا الحق أو الرزق تستطيع أن تدفع له حتى تسترد حقك!، وهذه فتوى مع الأسف مشهورة في قطاع المال والأعمال، كان من الواجب أن يكون الجواب: أن تذهب إلى هيئة مكافحة الفساد وتخبرها عن هذا الإنسان الفاسد المفسد.
والسؤال هنا: ما أسباب هذه الفساد الذي تعددت أشكاله؟ هل هو الفقر؟ بمعنى آخر، هل الفقير هو من يقوم بذلك؟، الجواب: لا، والدليل أن الفضائح التي حدثت بملايين الريالات في شركات عملاقة في المملكة كان من ورائها أشخاص متنفذون بهذه الشركات، إذا الفقر ليس السبب الأساس لهذه المشكلة، وإنما هو أحد الأسباب.
هل هو الجشع وحب المال لشراء السلطة؟ أم هو ضعف العقاب بناء على ما قيل قديماً: إن من أمن العقاب أساء الأدب؟، وخذ مثلا أكبر كارثة شهدها العالم في المملكة في سيول جدة، وهي دليل على أكبر عملية فساد ظهرت على الإعلام، ولكن مع الأسف لم تنته القضية إلى اليوم، ونحن الذين كنا نرجوها مثلا يضرب في ضرب أيدي المفسدين ليكونوا عبرة لمن يعتبر.
إذن ما الحلول للقضاء على هذا السرطان القاتل؟
وهل هيئة مكافحة الفساد هي الحل الوحيد والأمثل؟
نحن نريد هيئة لمكافحة الفساد تعمل مثل هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أي ينزلون إلى السوق ويعيشون مع الناس ويرون الفساد كما يرونه، ولا يعالجون الأمر من وراء مكاتب فخمة، كما نريد التكفل برعاية كرسي بحثي عن الفساد ومسبباته لكي نستطيع حل المشكلة، ونريد قطاعا خاصا في المحاكم للبت السريع في قضايا الفساد المفترض، في قضايا لا تأخذ بأي شكل من الأشكال أكثر من سنة.
ومن الحلول في مشكلات الفساد في الدوائر الحكومية أن تكون الرقابة من قرب، وهي أن يكون الوزراء بين الثلاث من الرئيسين على أقل تقدير بمعنى أن يعيش ويعمل كل وزير ثلاثة أشهر في المنطقة الشرقية وثلاثة أشهر في الغربية وستة أشهر في العاصمة الرياض كخطوة أولى، وأنا على يقين بمثل هذه التجربة سيحدث تطور هائل في إجراءات وقتل للفساد.
ولو فتحنا الباب للحلول لأتتنا كثيرة يلحق بعضها بعضاً، لكن لكي تعيش لابد أن تطبق، نريد أن نكون جميعاً متكاتفين لنقضي على هذا السرطان ونعيش في مجتمع نظيف يخلو من الفساد والفاسدين والمفسدين، ويليق بدوره الحضاري في قيادة الإنسانية جمعاء.