الملك عبد العزيز ومفهوم بناء الدولة (2 من 3)
لقد استوقفني كثيراً حديث الملك عبد العزيز - رحمه الله - الذي نشره الصحافي محيي الدين رضا في صحيفة ''الكتلة'' التي كان يراسلها ونشرته صحيفة ''الرأي'' في عددها السادس من السنة الثانية لعام 1366 هـ الموافق 1946، وذكر ذلك الباحث السعودي إبراهيم بن حمد آل الشيخ في معرض طرحه للحديث عن لقاء الملك عبد العزيز - طيب الله ثراه - الوفد السوري في حج عام 1365هـ، لقد ذكر الصحافي محيي الدين رضا ما نصه (حصل لي الشرف بمقابلة جلالة الملك عبد العزيز آل سعود في قصره العامر بالمعابدة في مكة المكرمة قبيل ظهر يوم الإثنين غرة شهر المحرم لسنة 1366هـ الموافق 1946)، وذكر أن الملك عبد العزيز - رحمه الله - تحدث عن نبذ الحزبية وذكر ما نصه (وجلالته يرى أن التحزب بدعة أوروبية لا تفيد الشرق في حالته الراهنة، وعلى الأسلوب الذي سرنا عليه من التنازع والخصومات، لأن الإنجليز مثلا لا تتأثر هيئاتهم وجماعاتهم بالخصومات أمام الشيء المفيد لبلادهم، فكلهم يتفقون على العمل لخير بلادهم، وأما نحن فإننا نعمل لمحاربة بعضنا بعضاً من أجل الوصول إلى كراسي الحكم، فحبذا لو أننا نتحد للعمل لما فيه خير البلاد أولاً وقبل كل شيء، إن السياسي الذي يعمل لجمع كلمة الأمة وتوحيد صفوفها هو الذي يستحق الحب والاحترام من الجميع).
ويضيف المؤلف أن الملك عبد العزيز - رحمه الله - استكمل إيضاح وجهة نظره بأن قال ''ليس معنى دعوتي للاتحاد أنني أدعو لترك الحزبية، كلا، فإنني أظن أن هذا الترك ليس من السهل تحقيقه، إنما أود الاتحاد فيما فيه خير البلاد قبل كل شيء''. ''لقد قلدنا الغرب في التحزب، لكن فاتنا أن الغربيين ينبذون الحزبية إذا تعارضت مع مصالح بلادهم، كما هو المشاهد والمحقق للجميع، فالإنجليزي إنجليزي قبل كل شيء، والفرنسي فرنسي قبل كل شيء''.
ثم أضاف المؤلف أن الملك عبد العزيز - رحمه الله - دعا إلى الالتفاف حول جامعة الدول العربية حتى ذكر على لسان الملك عبد العزيز - طيب الله ثراه - ما نصه ''أدعو العرب جميعاً إلى الالتفاف حول جامعة الدول العربية، لأن خصومنا أقوياء وفي اتحادنا قوة لنا جميعاً، ولقد استطاع اليهود أن يقنعوا العالم بأن العرب لا يمكن أن يتفقوا أو يتحدوا، فلنكذبهم بشيء يعود علينا بالخير العميم والنفع المحقق''.
إن المحلل لحديث الملك عبد العزيز - رحمه الله - يدرك عمق الرؤية لقائد صادق محب لوطنه وشعبه وللشعوب العربية والإسلامية وينظر بعين الخبير لما يصلح لهم وما يجب الأخذ به، ولو أن هذا الحديث نشر اليوم في إحدى الصحف لتوقع أن الملك عبد العزيز - رحمه الله - يتحدث عن الواقع العربي اليوم من انقسامات وقتل وسلب ونهب واغتصاب، وكيف أن العالم العربي والإسلامي يتعرض اليوم لأبشع الاضطهاد والتهميش والقتل والإحباط، وهذا كله تحت ظرفين أساسيين ذكرهما الملك عبد العزيز - رحمه الله - وحذر منهما وهما الحزبية وتسلط الفريق الواحد، والأمر الآخر عدم الاتحاد والعمل العربي المشترك.
إن مفهوم الحزبية كما أوضحه الملك عبد العزيز - رحمه الله - قبل أكثر من 70 عاما وقبل تبلور الأحزاب العربية يؤكد بعد النظرة لذلك القائد العربي المسلم، وهو أن الحزبية في العالم العربي تهتم بالفرد وهو القائد وتؤلهه وتفصله عن محيطه فلا يستطيع أن يرى إلا بأعين من يحيطون به، هؤلاء المحيطون هم من يقودون البلد للهلاك والدمار، والمطلع على وضع العديد من الدول العربية يلاحظ كيف أن الانقلابات العسكرية التي حدثت بعد لقاء الملك عبد العزيز - رحمه الله - مع الصحافي محيي الدين رضا عام 1366هـ الموافق 1946 وإنشاءها للأحزاب الحاكمة في بلادها أصبحت تقود تلك البلدان بنظر الحزب الواحد وفقاً لمصالح أصحابه الشخصية ودعما لشهواتهم المالية والجنسية، وضربوا عرض الحائط بمصالح أوطانهم وأصبح المعارض لهم عدواً للبلد وأهلها ومصالحها حتى انفصلوا بفضل بطانتهم الفاسدة عن محيطهم ومجتمعهم. ولعلي هنا أذكر كيف جسد فيلم ''طباخ الريس'' المصري الرئيس المصري ورغبته الصادقة في إصلاح البلاد، لكن عصابة الفساد جعلت منه أضحوكة في أيديهم حتى يمنعوه من معرفة الحقيقة، والفيلم وغيره من بعض الأفلام المشابهة توضح الجزء البسيط جداً من هيمنة البطانة على القيادة.
إن موقف الملك عبد العزيز - رحمه الله - من الحزبية وتحذيره منها يبرز أيضاً في مواقف بعض الدول الغربية التي انحرفت نحو الفكر العربي في مفهوم الحزب، ولعل التجربة الأمريكية في هذا الشأن تعطي أنموذجا آخر عن بعض الآثار السلبية لهيمنة ثقافة الحزب، حيث نلاحظ أن الرئيس الأمريكي أوباما مثلا يصبح معطلا عن العمل في السنتين الأخيرتين من فترته الأولى خوفاً من التخلص منه سواء من حزبه أو من الناخبين، وهنا يهيمن أصحاب المصالح الخاصة، خصوصاً اللوبي اليهودي، الذي حذر منه الملك عبد العزيز - رحمه الله - قبل أكثر من 70 عاما ــ لدعم مصالح إسرائيل والضغط على الرئيس الأمريكي لاعتماد ما يريدون دون هوادة أو احترام للرئيس أو البلد أو مصالحها.
إن حديث الملك عبد العزيز - رحمه الله - في ذلك اللقاء الصحافي يحتاج إلى إعادة القراءة والتأمل واستنباط الدروس القيادية الحقيقية التي نحن في أمس الحاجة إليها اليوم في المملكة العربية السعودية وعالمينا العربي والإسلامي إن أردنا الاستقرار والاستمرار والرخاء والرفاهية لبلداننا وشعوبها. ولي المزيد من العودة للطرح والمناقشة حول هذا الفكر العظيم، رحم الله الملك عبد العزيز وطيب ثراه على تحقيقه معجزة توحيد هذه البلاد العظيمة، المملكة العربية السعودية وبارك الله في الأيدي التي تعمل من أجل وطن سعودي الانتماء عربي اللسان، إسلامي المعتقد وعالمي الطموح، والله من وراء القصد.
وقفة تأمل:
يأيها الملك الميمون طائره
اسمع هديت مقال الناصح الحدب
اجعل مشيرك في أمر تحاوله
مهذب الرأي ذا علم وذا أدب
وقدم الشرع ثم السيف إنهما
قوام ذا الخلق في بدء وفي عقب
هما الدواء لأقوام إذا صعرت
خدودهم واستحقوا صولة الغضب
وأكرم العلماء العاملين وكن
بهم رحيما تجده خير منقلب
واحذر أناسا أصاروا العلم مدرجة
لما يرجون من جاه ومن نشب
واستعمل العفو عمن لا نصير له
إلا الإله فذاك العز فاحتسب