الملك عبد العزيز ومفهوم بناء الدولة (3 من 3)

عندما ذكر مقتطفات من حديث الملك عبد العزيز - رحمه الله - حول رؤيته ونصائحه حول المفهوم الصادق الناصح لبناء الدولة وأن هذا البناء لا يمكن أن يأتي دون رؤية ثاقبة ورأي مخلص وناصح أمين وإنسان يعف عن ما في أيدي الناس وأعراضها وهذا العفاف والانصراف يكون في رأس الهرم أولا ثم كل من يرتبط به ويعنى بالشأن العام ومصالح الناس. وقد أوضح الملك عبد العزيز - طيب الله ثراه - أمورا تعتبر مفصلية في مفهوم بناء الدولة وأكد عليه في لقائه بالوفد السوري قبل أكثر من سبعين عاما مضت، ومن أهم تلك الأمور:
أولا: الاستعانة بالخبراء والمستشارين المتميزين من مختلف شعوب العالم، وهؤلاء الخبراء والمستشارون ممن يحرصون على تقديم الرأي والنصح الصادق الأمين دون نفاق مخل بالواجب أو سوء أدب يفسد إيصال الرأي والمشورة، وهو ما يعانيه اليوم الكثير ممن يتولون أمور وشؤون الناس العامة، ويندر أن تجد من يحرص على إيصال الصورة والرأي الصادق الأمين، وأصبح أغلب المستشارين أو ما نسميهم اليوم البطانة هم من فئة سم طال عمرك أو Mr.yes أي أنهم لا يملكون الرأي ولا يستطيعون إبداء رأي، وهدف أغلبهم استغلال مكانته وقربه في إنهاء مصالحه الخاصة وزيادة ثروته بكل الطرق.
هؤلاء المستشارون هم صمام الأمان عندما يصدقون الرأي والمشورة، ويعملون من أجل تحقيق الاستقرار والاستمرار والنماء في كل شؤون الحياة، وهم العيون والآذان والعقول الصادقة المخلصة لمن قربهم منه لنقل الصورة الصادقة عن حالة البلاد والعباد، ولا يكونون ممن يحرصون على تزيين الأمور مهما ساءت لأنهم بذلك يخدعون من ائتمنهم على أمانة عظيمة اعتذرت عنها السموات والأرض والجبال مصداقا لقول الله سبحانه وتعالى "إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا" الآية.
أن هذه الأمانة تعظم بعظمة موقع الأمين من مكان الأمانة والمؤتمن عليها، ولهذا حرص الملك عبد العزيز - رحمه الله - على أن يكون كل المستشارين والبطانة التي تحيط به بطانة صالحة ناصحة أمينة ذات علم ومعرفة ودراية بظواهر الأمور وبواطنها، وهذا ما ساعد على إنشاء دولة عظيمة مترامية الأطراف مثل المملكة العربية السعودية.
ثانيا: أوضح الملك عبد العزيز - رحمه الله - أن من يتولى أمرا من أمور المسلمين يجب أن يعطيه حقه من الوقت والجهد والعمل لأن هذه الأمور العظيمة لا يمكن تحقيقها بالأحلام أو الكلام أو السهر أو اللهو أو غيره من الأمور التي تفقد المسؤول القدرة على تحمل مسؤولية وبناء الدولة وغيرها وتطورها واستقرارها واستمرارها. مجد عظيم لا يتحقق إلا بالعمل الجاد المخلص، ولعل قول الشاعر في ذلك خير معين لفهم المعنى:

"لا تحسبن المجد تمراً أنت آكله
لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبر"

ثالثا: أوضح الملك عبد العزيز - رحمه الله - في حديثه الكيفية التي يجب أن يكون البناء المؤسسي للدولة وقطاعاتها ومسؤولياتها وصلاحياتها وكيفية إدارة شؤونها وشؤون مواطنيها والمقيمين على أرضها، وإيضاح النظرة والسياسة الخارجية في العلاقة مع الدول وما يتطلبه ذلك. وقد استوقفني كثيراً حديثه عن مفهوم الحزبية والأحزاب والديمقراطية ومتطلباتها وآثارها الإيجابية والسلبية في بناء الدولة وتحقيق استقرارها. وهذا الأمر يحتاج إلى وقفات ووقفات وتأمل ودراسة وتمحيص لأنني كلما تعمقت في هذه الرؤية العظيمة لهذا الملك القائد العظيم قبل أكثر من سبعين عاما، وحاولت قراءة الوضع الراهن أجدها تتوافق معه بشكل كبير، وكيف أن مفهوم الحزبية أضر كثيرا بالعديد من دول العالم المتقدم وغير المتقدم، كما أن عمق النظرة التي أوضحت العلاقة بين مفهوم الدولة ومؤسساتها والحكومة ومؤسساتها والمجالس الاستشارية والشورى وغيرها، وأهمية إيضاح نقاط الفصل ونقاط الالتقاء بينها وتحديد المسؤوليات والصلاحيات، ومعالجة الفهم والخلط الخاطئ بين الدولة ورجالها ومسؤولياتها وأجهزتها وبين الحكومة ورجالها ومسؤولياتها وأجهزتها، وأن مثل هذا الخلط والتداخل أضر بالعمل المؤسسي في كل المستويات والمسؤوليات وهو ما سبق لي الحديث عنه في معرض كتاباتي عن مفهوم ومسؤوليات الدولة والحكومة وغيرها من قطاعات الدولة. وفق الله الجهود التي تعمل من أجل وطن سعودي الانتماء، عربي اللسان، إسلامي المعتقد وعالمي الطموح.

وقفة تأمل:

"لا يصنع الحب لا مال ولا جاه
الحب أجمل ما أعطى لنا الله
لو أن للصخر قلبا في تحجره
لأنطق الحب من أعماقه فاه
النهر من غير حب ما أفاض روى
إذا لغار ولم يسعفه مجراه
والطير في الأيك ما غنى لغير هوى
الحب في وكره ترجيع مغناه
والبدر ومضة حب في تألقه
يهدهد الليل والأجفان مسراه
والصبح حب تغشينا بشائره
مرآته الشمس ما أحلى محياه

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي