لحمة !!
قد كان أبي قبل كل أضحى يشتري الخروف الأبيض لنطعمه ونلعب معه ونستيقظ على صوته ، ثم يخبرنا أنه رحل ليزور بيوت أطفال آخرين تاركاً بيتنا يوم العيد !! كان وجوده في بيتنا من دواعي السرور والحبور، ومازلنا نحمل الذكريات عطرة إلى يومنا هذا ونتذكر الأم والأب واحتفالية العيد واجتماع الأهل والولائم والعزائم . كان سقف الأماني بريئاً طفلاً يقف عند مبلغ (العيدية) وكم جمعت البنات والأولاد في عائلتنا على امتدادها. وكان الغداء لحماً والهدايا لحم والصدقات لحم. لم أكن أدري حتى وصلت العاشرة من العمر أن الخروف الأبيض (صديقي المؤقت) هو من يتناوله ضيوفنا بنهم على العشاء ! ورغم تقززي من البيرفيوم الطبيعي لخاروفي الراحل، إلا أني كنت أبكيه على الوسادة وألوم أبي لأنه فتح الباب له وتركه يهرب !؟
لم أكن أدري يومها أنه عيد النحر وهو الأفضل من عيد الفطر وأن العبادة تتمثل في النحر مع الصلاة والصدقة مع الصلاة (فَصلِّّ لِرَبِّكَ وَأنْحَرّْ) لاجتماع العبادة البدنية والمالية معاً كما قال إبن تيمية. لم أكن أدري (لصغر عمري) أنها سنة الله في الأرض أبتداءً من قربان إبني آدم (عليه السلام) إلى فديّة اسماعيل بذبح عظيم ! وأن فوائد الليال العشر ويوم عرفة وأيام منى لا تعدّ ولا تحصى، ففيها من الغبطة والحبور ما يملأ الروح بطاقة إيمانية مدة عام كامل. كل فوائدنا المادية السطحية أنه عيد الفلوس وعيد الأكل والملابس الجديدة وعيد (الطلعة) لأن الزيارات كثيرة .
فرصة السعادة تأتينا كل عام ومازلنا لانحسن تفسير مدلولات الفائدة الروحية والمعنوية لأيام العيد. أولها اختزال سُنّة إبراهيم (عليه السلام) في يوم تستهلك فيه اللحوم الحمراء إلى درجة السرف والبطر . وثانيها عدم الاستعداد للفرح بالعيد فبعض الناس يلقونه بهمة فاترة ووجوه عابسة اقتناعاً بأنه مناسبة للخسارة وصرف الأموال والنفاق الاجتماعي فاقدين الروح الحقيقة لمعنى العيد ! وقد شرع الله من السنن المندوبة أموراً مباحة تدخل في الطاعات إذا حسُنت النية وتحقق شكر الله على النعم . منها التجمل والتوسعة على الأهل والعيال والمرح واللهو بما لا يخرج عن المباح. والتلذذ بما أنعم الله من الأطايب في المأكل والمشرب، وفي الحديث الشريف (يوم عرفة ويوم النحر وأيام منى عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكلٍ وشرب وذكر لله").وثالثها شعورنا المخلص بالرغبة في مشاركة النعمة مع الجيران والمحتاجين ومن لا يسألون الناس إلحافاً حرصاً على إجراء السنّة وسعياً لقبول ما تقربنا به إلى الله من أضاحي. فهل نفوت فرص السعادة بعدها ؟!
العيد ليس (لَحمة) بفتح اللام ، بل (لُحمة) بضمها ، وما أجمل أن يمتد شعورنا باللُحمة حول ولائم (اللَحمة) باعتدال وبر و إكرام . ليت أخلاقنا تسمو كل عيد لتخفق القلوب بالخير لكل الناس فيدخل السرور على من حولنا. تلكم هي الغاية الأسمى من العيد. بارك الله لنا في عيدنا ومكّن لنا الدين الذي أرتضى .
كل عام وأنتم ومن تحبون بخير.
رحمك الله يا أبي .