القطار.. ومعاقبة المخالفين
وصلت أخبار سالفة القطار إلى معظم أنحاء العالم؛ حتى هنا في إسطنبول يتداولون الموضوع باستغراب. الأسبوع الماضي تدافع الحجاج المتعجلون وقد هرعوا حول قطار مزدلفة والمفترض أنه قطار نموذجي تكلفته 6 مليارات ريال وبطاقة 540 ألف حاج. ما أن اختتم الحجيج رحلة حجهم ومغادرة مكة المكرمة، حتى كانت لجنة التحقيق المفترضة - وما أكثر لجان التحقيق التي لا تغني ولا تسمن من جوع - تباشر أعمالها في المشكلة التي حصلت في حركة القطار.
كالعادة عند تشكيل لجان التحقيق، تسابقت الجهات المعنية بالحدث بتوجيه الاتهامات للجهات الأخرى وكأن كلا منها تعمل لهدف منفرد ومن كوكب مختلف. الشركة المشغلة للقطار اتهمت مؤسسة الطوافة ممثلة باللجنة الوطنية للحج والعمرة بعدم التزامها بزمن التفويج نحو المحطة. لم تصمت مؤسسة الطوافة كثيراً فوجهت بدورها الاتهام لجهة بيع التذاكر التابعة لوزارة الشؤون البلدية والقروية ببيع حجاج مخالفين تذاكر القطار وطالبتها بتعويضات لقاء الضرر الذي لحق بها. أضف إلى ذلك معضلة 200 ألف حاج من غير حاملي التذاكر نقلهم قطار المشاعر مع الآخرين.
علمت أن لجنة التحقيق بدأت تحقيقاتها في صحة (أو عدم صحة) حيثيات بيع التذاكر بصورة غير نظامية، وكأننا كنا قد انتظمنا أصلاً في معاملاتنا الأخرى سواء التجارية أو الإدارية أو حتى في حياتنا اليومية. التحقيقات الأولية أشارت إلى عدم التزام مؤسسة الطوافة بزمن التفويج. لم أستغرب كثيراً لعلمي المسبق أننا آخر من يحترم دقة الوقت مع أنفسنا ومع الآخرين.
الخلل واضح للعيان ويتكون من عدة جزئيات؛ هناك جهة ما مسؤولة عن تكدس عدد هائل من الحجاج المخالفين أمام محطة القطار. لا تسألوني من أين أتى الحجاج المتسللون فالرواية الرسمية تؤكد أن عددهم مليون ومائتي ألف حاج وهم يتكاثرون كالنمل في يوم عرفة أو ليلة التروية في منى. لو أن هذا العدد الهائل من الحجاج قد أتوا من الخارج فهم يحتاجون إلى 6200 رحلة جوية لنقلهم للسعودية، ولو أن من بينهم حجاج الداخل فلا بد أنهم دخلوا عبر وسائلهم ''الذاتية'' وهي خصوصية تعودنا على استعمالها في أوقات حرجة مثل تسريع إنهاء معاملة أو الحصول على مقعد على خطوطنا الجوية أو سرير في مستشفى متخصص في إحدى المدن الرئيسية.
بيع تذاكر القطار بصورة غير نظامية من قبل الجهة المسؤولة عمل لا يرقى لبلد يسخر إمكاناته لتقديم أفضل الخدمات لحجاج بيت الله الحرام. ممثل الشركة في أحد منافذ بيع التذاكر قرب مستشفى النور نفى بيع التذاكر (المضروبة) واتهم مؤسسات الطوافة نفسها ببيع هذه التذاكر. هذا طبعاً خطأ إداري فادح أن تتولى أكثر من جهة بيع التذاكر في آن واحد دون تنسيق بينها.
الخلل الثاني هو وجود حجاج مخالفين يحملون تذاكر قطار بيعت عليهم بطريقة غير نظامية، أي أن الحجاج الذين دخلوا بطرق غير نظامية أيضاً حصلوا - بطريقة أو أخرى - على تذاكر قطار المفترض أنها تباع للحجاج المنتظمين فقط دون غيرهم. اللجنة الوطنية للحج والعمرة سلمت شكوى لوزارة الحج ضد الشركة المشغلة للقطار تتهمها بالتسبب في تحميلها تكاليف نقل نحو 70 ألفا من حجاج الداخل عبر الحافلات رغم حيازتهم تذاكر نظامية.
الخلل الثالث هو أن بعض الترتيبات والضوابط التي يتم وضعها قبل بداية الحج قد لا تطبق بالدقة المطلوبة، هناك مستحقون فعليون من حجاج الداخل اضطروا للانتظار فترات طويلة دون الحصول على مقعد رغم أنهم يمتلكون تذاكر القطار. قد يكون أحد الأسباب هو رفض بعض الحجاج مغادرة القطار ربما عن حسن نية وربما غير ذلك.
توالت خطابات الشكوى والاحتجاج، فهناك أيضاً خطاب يتم إعداده من قبل شركات ومؤسسات حجاج الداخل، يطالبون بتعويضات بمئات الملايين لتعويض حجاج تضرروا من مشكلة تأخر نقلهم في الوقت المناسب، أو أنه تم نقلهم بحافلات لا ترقى للـ ''بَكِج'' التي وُعِدوا بها.
طيب من المتسبب في التدافع والزحام فيما حصل مع القطار؟ لا أحد يعلم أو بالأحرى لا أحد يريد أن يعترف بالخطأ. المحطات كانت تعج بالحجاج سواء كانوا نظاميين يمتلكون تذاكر، وبادروا بالقدوم قبل مواعيدهم المحددة مسبقاً، أو من قبل حجاج مخالفين للأنظمة، ما أربك خطة التفويج الأصلية ونتج عنه تكدس الركاب في المحطات.
بما أننا نتحدث عن المخالفين، القوة الخاصة لأمن الطرق منعت 4429 مركبة ما بين حافلات غير مرخصة وسيارات صغيرة لا يسمح التنظيم المروري بدخولها المشاعر المقدسة. أعتقد أننا وظفنا في موسم هذا الحج قوة أمنية لخدمة الحجاج قوامها أكثر من 120 ألف رجل أمن، إضافة إلى عشرة آلاف آلية و25 طائرة عامودية للدفاع المدني، و20 طائرة عامودية للأمن العام، يعمل بها 360 طياراً وفنياً، و1000 مسعف، و100 دورية أمنية متجولة، و200 مركز أمني. كل هذا جهد كبير تبذله السعودية كواجب إسلامي، ولكن طالما أنه لا توجد عقوبة للمخالفين فالفوضى ستستمر بغض النظر عن حجم رقابة الجهات الحكومية المشاركة في الحج.
الحل يا سادة هو معاقبة المخالفين المتسللين من الداخل أو الخارج، وإدارة أكثر تنظيماً للحشود عبر إحكام السيطرة على الدخول والخروج من محطات القطار، ومنع الافتراش في محطات القطار.
القطار الشمالي الجديد قادم في العام القادم. فهل سيتم تزوير ''سوار المعصم'' أو تداوله في السوق ويتكرر نفس الوضع ليخدش الإنجاز الكبير؟
متى نكف عن تقييد أخطائنا ضد مجهول؟