ما الفساد الذي يجب أن نحاربه؟ (2 من 3)
استكمالا لحديث محدثنا حول تحديد الفساد الذي يجب أن نحاربه وقبل محاربته نتعرف على أسبابه ومسبباته وعمل كل الفحوص المخبرية والسريرية في أرقى مراكز الفحص حتى نحدد المشكلة والعلة حتى يسهل علينا وصف العلاج القادر على القضاء على المرض وألا يكون علاجنا بالمهدئات أو الإعلانات أو الاتهامات أو المعالجة السطحية البسيطة دون الدخول في عمق الفساد والقضاء عليه.
لقد ختمت المقال السابق بأن تطبيق نظام ومميزات موظفي هيئة مكافحة الفساد على بقية موظفي الحكومة ربما يكون مدخلا جيدا للبدء في القضاء على بعض أسباب الفساد، خصوصا بين نسبة كبيرة من الموظفين، علما أنني لا أعرف بشكل واضح وصريح المميزات التي أعطيت لزملائنا في هيئة مكافحة الفساد، لكن على ذمة محدثنا فهي مناسبة للقضاء على نسبة كبيرة من الفساد المباشر وغير المباشر في المؤسسات والأجهزة الحكومية.
لكن وجهة نظري هي الأخذ بأمور مكافحة الفساد إلى ما هو أبعد من ذلك, هذا الأبعد هو أهمية الارتقاء بالعمل الحكومي أيا كان نوعه أو مكانه أو القائم عليه، لأن محاربة الفساد ليست هدفا في حد ذاتها، لكنها وسيلة من الوسائل للارتقاء بالعمل وتقديم أفضله واستثمار واستغلال كل ما يعتمد من ميزانيات وما يخصص من وقت لأداء ذلك العمل، لهذا فإن الأخذ بنظرة التطوير الشامل للأنظمة الإدارية والمالية في القطاع الحكومي ستكون المدخل السليم لتطوير العمل والارتقاء بالأداء وكسب رضا العميل، كما يقول زملاؤنا في القطاع الخاص.
إن تجربة تحويل بعض القرارات أو المؤسسات أو الأجهزة الحكومية إلى شركات حكومية وتطبيق نظام الشركات المالي والإداري والتعيين والفصل والتدريب والتأهيل عليها جعل منها نموذجا تنمويا مميزا إلى حد كبير مقارنة بوضعها قبل التحول من مؤسسة حكومية إلى شركة حكومية، مع ملاحظة أن موظفيها هم الموظفون أنفسهم في المؤسسة الحكومية، لكن تغيير النظام الإداري والمالي غير العطاء والانتماء وأسلوب العمل والإنجاز, ولنتذكر جميعاً كيف كان حالنا مع وزارة البرق والبريد والهاتف وكيف صار حالنا مع شركة الاتصالات السعودية مع أن المسؤول هو المسؤول والموظف هو الموظف والعامل هو العامل، لكن ما تغير حول أن الشركة ليست ''بيتا للراحة'' أعزكم الله، كما يحدث مع الأجهزة الحكومية، لأن العامل في الشركة إذا لم ينتج ويتطور ويتدرب سيصبح خارج فرص الترقية والحوافز وربما يجد نفسه خارج الشركة، والأمر مثلاً ينطبق على وزارة المياه ومصالحها والتحول الإيجابي بعد التحول إلى شركة المياه الوطنية, مع أن الوزير هو الوزير والوكيل هو الوكيل، لكن النظامين المالي والإداري ليسا هما السابقين في كل الأمور والتفاصيل.
إن دراسة مثل هذين النموذجين وغيرهما من نماذج التحول أو الإنشاء أو ما سميته نموذج الهروب من نموذج الجهاز الحكومي إلى نموذج الهيئات والشركات الحكومية سيساعدنا على إنارة طريقنا نحو تطوير جميع مؤسساتنا وأجهزتنا الحكومية وسيحقق - بعد توفيق الله - كل ما نأمله من تطوير للأداء وارتقاء بالخدمات ورفع مستوى الفائدة من كل هللة نصرفها من ميزانياتنا وكل ثانية نصرفها من وقتنا ويجعل الجميع يعيشون في تبات ونبات ويخلفون صبيانا وبناتا.
إن النظرة المتأنية الصادقة الناصحة الأمينة لوضع ونظام الأجهزة الحكومية وما أصابهما من ترهل وتضخم وغياب أو ربما هروب للكفاءات منها وعزوف الآخرين عنها ستساعد كثيرا على معالجة كل المشاكل التي يعانيها الجميع وسيقضي بعد توفيق الله - سبحانه وتعالى - على الكثير من الظواهر السلبية التي نراها اليوم في مختلف مؤسساتنا وأجهزتنا الحكومية, كما أن هذه النظرة المتأنية الصادقة الناصحة الأمينة ستعيد للكفاءات السعودية فرصتها لإثبات ذاتها لأن المؤسسات والأجهزة الحكومية هي المعنية بشكل حقيقي ومباشر عن تطوير وتنفيذ ومتابعة كل المشروعات التنموية من اجتماعية واقتصادية وخدمية وتركها كما هو الآن من دون تلك الالتفاتة الصادقة ستقودنا إلى مزيد من الترهل والفساد ولن تستطيع كل أجهزة الدنيا وعلماؤها معالجة الوضع بالمراقبة والتفتيش والترهيب والإعلان والتهديد، لأن فاقد الشيء لا يعطيه أو كما يقول بعض الأحبة ''ماذا يأخذ العريان من المتزر''. ولي عودة للعريان والمتزر في وقفة قادمة - إن شاء الله, وفق الله الجميع لما يجب ويرضى.
وقفة تأمل:
''وفينا رسول الله يتلو كتابه
إذا انشق معروف من الفجر ساطع
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا
به موقنات أن ما قال واقع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه
إذا استقلت بالكافرين المضاجع
وأعلم علما ليس بالظن أنني
إلى الله محشور هناك فراجع''