التنمية وإعادة صناعة صُنَّاعها
العالم اليوم يعيش حالة من الحرب غير المعلنة في أجزائها، ومعلنة في أجزائها الأخرى فيما يتعلق بالسعي نحو تحقيق التفوق العلمي والاقتصادي والصناعي، وتخصص الدول المتقدمة والمتحضرة المليارات من أجل توجيهها لمجالات البحث والمخترعات التي تدعم اقتصادها وتحقق لها الهيمنة العالمية على كل مصادر الإنتاج، وتحقق فرص العمل لمواطنيها، التي تقود إلى تحقيق الرفاهية والعيش المريح للجميع.
إن تسابق العالم من حولنا نحو الاستثمار في العقول وتوجيهها بما يخدم مصالح دولها حق مشروع لكل دولة، ولها في ذلك أن تعمل ما تشاء من أجل تحقيق هذا الهدف المشروع, على أنني أرى أنه في هذا السباق البشري الاقتصادي المحموم حول تحقيق المكاسب المادية أفقدنا الكثير من المكاسب الإنسانية، بحيث أصبح الجميع، حكوميين وتجارًا وأكاديميين وإعلاميين وعلماء، عبارة عن مكائن لجمع الفلوس دون الإحساس بالبعد الإنساني في مجال التنمية وتحقيق التوازن التنموي والمعرفي بين القيم الإنسانية وتعزيزها والقيم الاقتصادية جميعها بحيث لا تصبح الحياة مادة لا مكان فيها للقيم الإنسانية السوية.
إن فكرة إعادة النظر في الكثير من القيم المادية الطاغية اليوم على الفكر البشري والتسابق أو التقاتل المحموم على المادة دون أي اعتبار للقيم الإنسانية والحقوق المجتمعية تجعلني أطرح فكرة إعادة صناعة الإنسان وتقويم عطائه بحيث نعيد بناء الإنسان في الكثير من السلوكيات الإنسانية، ونعيد له شيئًا من إنسانيته التي فقدها أو فقد أكثرها في سباقه المحموم والمسموم نحو تكوين الثروات المادية على حساب كل شيء وأي شيء، وصرفها في ملذات لا تزيده إلا بُعدًا عن الله.
إن صناعة الإنسان الجديد سلوكًا وتعزيزًا غرس القيم الإنسانية التي تنطلق من الكتاب والسنة تأكيدًا لقول المصطفى- عليه الصلاة والسلام- ''إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق''، وهي الأخلاق التي تواصت بها كل الشرائع السماوية المعينة بعد توفيق الله- سبحانه وتعالى- على إكمال المؤمن دينه، لقوله- عليه الصلاة والسلام ''أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا''. هذان التوجيهان العظيمان يعتبران ركيزة أساسية في إعادة برمجة وصناعة إنسان العصر الحالي سلوكًا وتعاملاً ومعرفة.
وكما ذكر العديد من علماء الإسلام أن حسن الخلق يكون في التعامل مع الخالق- سبحانه وتعالى- من خلال تقبل أخبار الله بالتصديق وأحكامه بالتطبيق والتنفيذ وأقداره بالصبر والرضا، ثم في التعامل مع المخلوق بعدم إيذائه ومساعدته وحسن التعامل معه، ويقول- عليه الصلاة والسلام- في خطبة الوداع: ''إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا, في بلدكم هذا''. هذه التوجيهات الإلهية والتعليمات النبوية التي ترتكز على عبادة الله وحده لا شريك له، وتعمل على تخليص العبادة والسلوك من الشرك والرياء، وتؤكد دعم العلاقات الأسرية الإنسانية السوية، وتحفز من مفهوم المسؤولية الاجتماعية التي يتحملها كل فرد من أفراد المجتمع حتى تحقق بذلك تعزيز الانتماء الوطني، ويراعي كل واحد منا أهله وأسرته وجاره، ونكون كما وجهنا رسولنا- عليه الصلاة والسلام- بقوله ''مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى''.
إن هذا التوجيه والوصف النبوي للعلاقات الإنسانية المنطلقة من الخلق الكريم بالعطف والرحمة والسؤال عن أحوال الأهل والأسرة والمجتمع هو المدخل إلى بناء وصناعة إنسان القرن الحالي المتمكن من كل علوم الأرض، ومتمتع بكل أخلاقيات المؤمن الحق القادر على تحقيق البناء التنموي الإنساني والمكاني المتوازن والسليم لكل ما تحتاج إليه المجتمعات من تنمية دنيوية وأخروية، وبما يساعد على إيجاد التوازن النفسي والنظرة السليمة وفقًا لقول الله- سبحانه وتعالى ''وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ''.
إننا من هذه الرؤية الإسلامية الإنسانية نستطيع بعد توفيق الله- سبحانه وتعالى- بناء منظومة تربوية تدريبية تأهيلية لبناء وصناعة الكفاءات السعودية التي تعمل في مجال بناء الإنسان وتنمية المكان بحيث تملك كل الأدوات التي تساعدها على تطوير العمل وإنجاز ما نصبو إليه جميعًا لتعزيز الانتماء الوطني والارتقاء بالخدمات والمرافق التي يأملها المواطن وتطمح إليها القيادة السعودية.
وفق الله الجميع لما يحب ويرضى.
وقفة تأمل
''وزير إيطالي: إذا كانت السيدة مريم تظهر محجبة في جميع صورها، فكيف تطلبون مني أن أوقع قانونًا يمنع الحجاب؟''.