أمور في القضاء

التواجد على أرض الكنانة هذه الأيام أفضل درس للقانونيين وغير القانونيين (مثلي) لتلقي دروس في القضاء. الإعلان الدستوري، الاستفتاء، القضاء الإداري، المحكمة الدستورية العليا، نادي القضاة... هذا كل ما تسمعه وتراه وتتنفسه ليلاً ونهاراً في مصر الحبيبة.
لكن البعد عن الوطن لم يمنعني من متابعة آخر مجريات أمور القضاء التي تناولتها وسائل الإعلام السعودية بشغف وإصرار، سأسرد هنا أربعة منها. مجلس الوزراء السعودي أقرّ هذا الأسبوع نقل اختصاص هيئة الرقابة والتحقيق المتعلق بالتحقيق والادعاء العام في الجرائم الجنائية إلى هيئة التحقيق والادعاء العام. المطلوب الآن من هيئة التحقيق والادعاء العام إعداد قائمة بأسماء الجهات واللجان التي تتولى التحقيق والادعاء في جرائم جنائية وإحالتها إلى هيئة الخبراء في مجلس الوزراء لدراستها ولتحديد أسماء الجهات واللجان التي تتولى التحقيق والادعاء في الجرائم الجنائية بشكل نهائي. كذلك تتوقف هيئة الرقابة والتحقيق عن ممارسة أي نشاط يتعلق بالرقابة المالية وتتوقف وزارة الخدمة المدنية عن ممارسة أي نشاط يتعلق بالمراجعة الميدانية، أي أنه يتم نقل نشاط الرقابة المالية إلى ديوان المراقبة العامة ونقل نشاط المراجعة الميدانية إلى هيئة الرقابة والتحقيق.
المهام الأساسية لهيئة التحقيق والادعاء العام المنصوص عليها في نظامها الأساسي هي التحقيق في الجرائم، التصرف في التحقيق برفع الدعوى أو حفظها، الادعاء أمام الجهات القضائية، طلب تمييز الأحكام، الإشراف على تنفيذ الأحكام الجزائية، الرقابة والتفتيش على السجون ودور التوقيف وأي أماكن تنفذ فيها أحكام جزائية، الاستماع إلى شكاوى المسجونين والموقوفين للتحقق من مشروعية سجنهم أو توقيفهم ومشروعية بقائهم في السجن أو دور التوقيف بعد انتهاء المدة، اتخاذ الإجراءات اللازمة لإطلاق سراح من سجن أو أوقف منهم دون سبب مشروع، وتطبيق ما تقضي به الأنظمة في حق المتسببين في ذلك. آمل أن تفعل هيئة التحقيق والادعاء العام هذه المهام على أرض الواقع.
أما المحور الذي أثار اهتمامي - ربما بسبب تخصصي - فهو أن تقوم كل من هيئة التحقيق والادعاء العام، وهيئة الرقابة والتحقيق، وديوان المراقبة العامة، ووزارة الخدمة المدنية بإعداد هياكل تنظيمية لها تعكس أنشطتها واختصاصاتها في ضوء التغييرات الجديدة، ورفعها إلى اللجنة العليا للتنظيم الإداري لاعتمادها.
إذن نحن أمام تغييرات مهمة في هيكلة بعض أهم مؤسسات الرقابة الحكومية، بعضها بزيادة مهامها والبعض الآخر بتقليصها. المهم في الأمر أن تحفل العدالة بكافة المعاني الأخلاقية والإنسانية التي ترعى وتحمي حقوق الإنسان.
التطور الثاني المهم هذا الأسبوع هو تأكيد اللواء علي الحارثي مدير عام السجون أن السجون لن تستقبل قضايا هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعد الآن دون مذكرة توقيف كما كان في السابق. بمعنى آخر، من الآن وصاعداً يتطلب لجميع جهات التوقيف إنشاء نظارات للتوقيف أو لإخلاء السبيل دون أن تأتي للسجون ولن تقبل السجون أي إنسان إلا بمذكرة توقيف. الترتيب الإداري الجديد يعني أنه بعد أن تلقي الهيئة القبض على ''مشتبه به'' ما، يجب أن يرسل للشرطة ومن ثم التحقيق والادعاء العام ليتم إنشاء مذكرة توقيف وعلى أساسها يتم تحويله للسجون.
هذا أمر مهم في تطوير عمل كل من الإدارة العامة للسجون وكذلك هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن المهم - في رأيي - هو ألا تطول فترة التوقيف دون أسباب مقنعة في نظارات التوقيف ''المؤقتة'' لحين الحصول على مسوغ قضائي أو إخلاء سبيل الموقوف. كذلك أتمنى أن تطبق السجون التوجيه السامي بإنشاء محاكم داخل السجون لتسريع المحاكمات حتى لا يضطر السجين للذهاب والإياب بالسلاسل والقيود. لا أعلم سبب التأخير في التطبيق، لا سيما أن وزير الداخلية والمجلس الأعلى للسجون ووزارة العدل أقروا بذلك.
الموضوع الثالث المهم هو النقاش الذي دار أثناء جلسات المجمع الفقهي الإسلامي في رابطة العالم الإسلامي في الدورة الـ21 عن تزويج القاصرات. رفض بعض العلماء تجريم زواج القاصرات لأن (أهلية الأنثى يحددها النمو الجسمي). الجانب الإيجابي أن القرضاوي (رغم اختلافي معه في كثير من الأمور) يرى أن تحديد سن معينة لزواج القاصرات ضروري ''حتى لا يُترَكن لعبث بعض الآباء''.
الأمر الرابع الذي أثار اهتمامي هو تشديد مفتي عام المملكة رئيس ''هيئة كبار العلماء''، الشيخ عبد العزيز آل الشيخ على أن يوحد القضاة أحكامهم وعدم حدوث اختلاف فيما يصدرونه مقارنة بالمدن الأخرى في المملكة. قد تكون هذه بادرة للبدء الفعلي لتقنين الأحكام القضائية التي طال انتظارها. النوايا واضحة، فالمفتي العام طالب بإيجاد نظام تقني موحد يظهر الأحكام الصادرة عن القضاة ويطالعها القضاة كي يحكموا بمثل ما حكم في السابق، وتعمم على جميع فروع ديوان المظالم.
يتجه بعض العلماء لتحريم تقنين الأحكام القضائية لأن ذلك - في رأيهم - يقود إلى التغريب ويقفل باب الاجتهاد وهذا في نظرهم (مفسدة عظيمة). مع احترامي للجميع، أختلف مع هذا التوجه لأن التقنين ليس مدخلاً لتغيير أو تبديل أو تعديل الشريعة، بل يسعى في الأصل لإعانة القضاة على إصدار الأحكام الشرعية الصحيحة حسب قاعدة نظامية متسقة ومتوازنة وميسرة. كذلك أعتقد أن التقنين أفضل قضائياً من الاجتهادات الفردية لأنه يهدف إلى توفير الوقت والجهد ما سينتج عنه تسريع إنجاز القضايا. من ضمانات العدالة أن حق التقاضي مكفول للجميع بموجب النظام الأساسي للحكم إلى جانب مبدأ المساواة أمام القضاء. ومن هذا المنطلق أعتقد أن تقنين الأحكام يحقق هذه المبادئ السامية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي