ماندرين اللغة القادمة
قرعت طبول الحرب , وبدء أزيز الطائرات يقترب من قرية نائية حيث يوجد بها مدرسة صغيرة , وبدء الطلاب يركضون من هنا وهناك مذعورين , وإذا بمعلمهم يصرخ فيهم أن هلمّوا إلي فاجتمع الطلبة حوله لعلهم يجدون ملاذا آمنا عنده , فقام فيهم خطيب على عجل وقال : أصغوا لما سأقوله جيدا فربما يكون هذا أخر لقاء لنا و أهم درس في حياتكم , إن الألمان قادمون ليحتلوا بلادنا, ولن يستطيعوا ذلك إذا حافظتم على لغتكم الفرنسية .
اللغة ليست فقط كلمات نقولها لنخاطب بعضنا بعضا , بل هي تعبر عن معتقدتنا و آراؤنا ومشاعرنا , و هي ثقافتنا وتاريخنا , اللغة تمثل من نحن ومن نكون . عندما أرادوا من تركيا أن تخلع عباءة الثقافة العربية والدينية لترتدي القبعة الأوربية استبدلوا فقط الحرف العربي بالحرف الانكليزي للغة التركية , وهذا التغير البسيط غير أجيال كانت لم تولد بعد !.
إن يوم 18 ديسمبر من كل سنة هو اليوم العالمي للغة العربية, وقد اختير هذا اليوم بذاته لأنه اليوم الذي صدر فيه قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة لإدخال اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية للجمعية العامة وهيئاتها , وأصبحت ضمن لغات العمل في الأمم المتحدة .
تعد اللغة العربية من أقدم اللغات السامية (اللغات السامية هي لغات تتبع العائلة الشمالية الشرقية للغات الأفريقية الآسيوية) , و البعض يزعم أن اللغة العربية هي أقرب اللغات السامية إلى "اللغة السامية الأم"، وقد لاقت هذه النظرية قبولاً لدى كثير من الباحثين. ويقدرعدد الذين يتكلمون اللغة العربية ب 422 مليون نسمة , وأتوقع أنهم أكثر من ذلك بكثير لأنها أولا لغة القرآن والعبادات , وثانيا أن عدد المسلمين اليوم يقارب من 1.54 مليار نسمة.
هناك أسباب كثيرة تستمد اللغة قوتها وانتشارها منها , من هذه الأسباب القوة السياسية والاقتصادية كالإنجليزية مثلا . وبعضها يستمد قوتها من الأنظمة العالمية, ومثال ذلك أن اللغة الفرنسية استمدت قوتها من القانون الدولي الذي كتب بها. وقد يكون السبب في كثرة عدد الذين يتحدثون بها , فان نسبة 20 % من سكان الأرض يتحدثون اللغة الصينية وهي تسمى (ماندرين).
وأما السر وراء قوة اللغة العربية وبقاءها إلى اليوم بنفس القوة والجمال الفتّان , و برغم الغزو الفكري واللغوي القوي فذلك يرجع بلا شك إلى القرآن الكريم والسنة الشريفة فهما الحصن المنيع الذي حفظ اللغة من الذوبان في اللغات الأخرى. ثم بعد ذلك يأتي الشعر وبراعته , يقول جبران خليل جبران " إن خير الوسائل , بل الوسيلة الوحيدة لإحياء اللغة هي في قلب الشاعر وعلى شفتيه وبين أصابعه ".
والأمر الأخر الذي يجعلنا نزهوا بها طربا وفخرا هو قدرتها القوية والفائقة على التعريب , وروعتها في استعياب بعض المصطلحات من اللغات الأخرى وذلك بشروط دقيقة محددة ومعينة. وفيها أيضا خصائص كثيرة مذهلة من ترادف , وأضداد , وتتميز كذلك بظاهرة المجاز , والطباق والجناس ,والمقابلة والسجع, والتشبيه. وتملك فنون اللفظ كالبلاغة و الفصاحة , وهناك أمور أخرى عديدة لا يسع المقام ولا المقال لها.
ومع ذلك كله لانزال نجد أن البعض منا يطرب للغات الأخرى ويفتخر بها أكثر من لغتنا ! , والأسوء من ذلك الذي يتصدى لانتشار اللغة العربية مدعيا أنها لا تصلح لتكون لغة علمية وعالمية !. وتلك صورة واضحة من صور الضعف والانهزامية والانغماس في جلد الآخرين, يقول الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله " هذه العربية أكثر من لغة هي رابطة متينة لا تحلها يد أجنبي أو منافق أو ضعيف جهلها فعاداها ".