عجز الميزانية يدعم التنمية الاقتصادية

في الاقتصادات ذات النمو السريع والخطط الإستراتيجية المفصلية يعد عجز الميزانية الحكومية وسيلة ضرورية لتمويل المصروفات المغذية لخطط التنمية الاقتصادية، ولا سيما تلك الاقتصادات الساعية إلى تنويع مصادر الدخل وعدم الاعتماد على مداخيل الموارد الطبيعية متقلبة الأسعار، كما هي الحال مع النفط في السعودية.

لذا فالعجز -في حد ذاته- ليس سيئاً إن جاء نتيجة زيادة في المصروفات الرأسمالية والصرف على المشاريع الضخمة للبنى التحتية التي تمتد فوائدها على مدى عقود طويلة من الزمن.

وقد صرح وزير المالية العام الماضي بأنه "يكون هناك قلق لو كان العجز غير هيكلي وغير مخطط بسبب صدمات خارجية أو بسبب انخفاض الإيرادات". هذا يتماشى مع النظرية الكينزية الاقتصادية التي تأسست في 1936، وفكرتها أن الحكومة ممكن أن تلعب دوراً أكبر في الحد من تقلبات الدورة الاقتصادية ودعم القطاع الخاص وتقويته لمواصلة الإنفاق وتنمية الاقتصاد.

ثم جاءت مدرسة ما بعد الكينزية لتؤكد دور الصرف الحكومي لرفع الطلب العام في الاقتصاد، وذلك يختلف عن النظرية الكلاسيكية التي ترى أن العرض بنفسه كفيل بجلب الطلب، بل على العكس يرى الكينزيون أنه من الضروري رفع مستوى الصرف الحكومي لتحفيز الطلب الكلي.

بالنظر إلى ميزانية الدولة لعام 2024، جاءت الإيرادات أعلى من المتوقع بـ87 مليار ريال، وجاءت المصروفات أعلى من المخطط له بنحو 124 مليارا، فزاد العجز الفعلي عما هو متوقع بنحو 37 مليار ريال ليصل إلى نحو 115 مليار ريال، تمت تغطيته من خلال إصدارات دين داخلي وخارجي دون السحب من الاحتياطيات الحكومية التي أنهت عام 2024 عند مستوى 390 مليار ريال. سواء كان هناك عجز في الميزانية من عدمه، فمسألة الاقتراض هي الأخرى ليست سيئة في حد ذاتها كما قد يظن البعض.

فإذا كانت العوائد المستهدفة من الاقتراض أعلى من تكلفة الاقتراض يكون التوجه نحو الاقتراض أمراً محموداً، بل ضرورياً، لكن يجب أن يكون هناك حد معين عنده ترتفع مخاطر الاقتراض على الدولة، وهذا نجده في نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي، الذي في السعودية يصل إلى 26% وذلك أقل بكثير من دول اقتصادية كبيرة، مثل أمريكا بأكثر من 100% واليابان بأكثر من 200%.

من جهة أخرى، زيادة الإنفاق الحكومي لها تأثيرات مباشرة وغير مباشرة في السوق المالية، كالأسهم وصناديق الاستثمار، فكثير من الشركات المدرجة تستفيد مباشرة من الصرف الحكومي المحفز للطلب الكلي، وتستفيد مباشرة من نضج البنى التحتية وتطورها، وهذا أحد أسباب فرض ضريبة قيمة مضافة في السعودية.

لذا يهتم المتابعون لأسهم الشركات بأوضاع الميزانية ومستوى الإنفاق على وجه الخصوص، ولو نظرنا إلى تحركات أسعار الأسهم منذ 2000 فقد نستنتج علاقة معينة بين بيانات الميزانية وحركة سوق الأسهم، وإن لم تكن علاقة فورية مباشرة لكنها موجودة، فمثلاً ارتفعت مصروفات الميزانية منذ 2000 حتى الآن بنحو 6 أضعاف، تخلل ذلك سنوات تحققت فيها فوائض وعجوزات في الميزانية، وارتفع معها المؤشر العام للأسهم بنحو 4.3 ضعف، من دون حساب التوزيعات النقدية.

وفي 2005 حصل أعلى ارتفاع في سوق الأسهم بنسبة 104% بالتزامن مع ارتفاع الصرف بنسبة 21% عن العام السابق، وارتفاع سوق الأسهم بنسبة 30% عام 2021 تزامن مع ثبات في الصرف لكن بزيادة كبيرة في إيرادات الدولة بلغت 23%.

معظم الدول تتبع مبادئ النظرية الكينزية، ومع ذلك هناك من لا يأخذ بها بشكل كامل، أو يعارضها تماماً، منها ألمانيا التي تفضل الميزانية المتوازنة ونجحت في ذلك بدرجات متفاوتة، مثلها سويسرا التي لديها ضوابط صارمة للصرف وتجنب العجز، وكذلك بعض الدول الاسكندنافية والصين إلى حد كبير.

بشكل عام هناك مدارس اقتصادية تعارض مبدأ الصرف من خلال عجز الميزانية، كالمدرسة النمساوية التي ترى أن ذلك يتسبب في ارتفاع التضخم وتشوه الأسواق، بينما واقع التجربة السعودية يخالف ذلك تماماً، وبالطبع تشاركها في ذلك مدرسة شيكاغو النقدية التي تحذر من أن ذلك يرفع التضخم ويؤدي إلى تدني كفاءة القطاع الخاص.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي