عدالة توزيع الدخل

كشفت قائمة الأثرياء العرب في القائمة السنوية التي تنشرها ''أرابيان بزنس'' لعام 2012، عن سيطرة 28 عائلة سعودية على القائمة، تلتها سيطرة ثلاث عائلات في كل من الكويت، الإمارات، فلسطين، مصر، الأردن، والعراق، وعائلة في كل من البحرين، لبنان، سويسرا، والسودان. كما كشفت القائمة عن أن إجمالي ثروات هذه العائلات يقدر بـ 197 مليار دولار أمريكي، وبمعدل نحو أربعة مليارات دولار أمريكي لكل عائلة عربية.
تأتي هذه القائمة متزامنة مع بلوغ عدد سكان الدول العربية نحو 350 مليون نسمة، وبقاء نحو 45 في المائة منهم في دائرة الفقر، ضمن اقتصادات عربية تنمو بوتيرة جداً بطيئة، ووجود قرابة 20 مليون شاب عربي عاطل عن العمل، 60 في المائة منهم من فئة الشباب الأقل من 25 سنة - حسب تقديرات منظمة العمل العربية. وحسب تقرير مجلس الوحدة الاقتصادية التابع لجامعة الدول العربية، فإن معدل البطالة في الدول العربية يقدر بنحو 22 - 27 في المائة، متقدماً عن تقديرات منظمة العمل الدولية، الواقعة في حدود 19 - 20 في المائة. تأتي هذه القائمة كذلك في الوقت الذي بلغ فيه معدل التضخم في الدول العربية خلال العام الحالي نحو 8.3 في المائة - حسب توقعات المؤسسة العربية لضمان الاستثمار وائتمان الصادرات، مع بلوغ متوسط دخل الفرد في الوطن العربي من الناتج المحلي الإجمالي 8554 دولارا أمريكيا سنوياً عام 2011 - حسب دراسة مركز أسبار للدراسات والبحوث.
يفتح هذا التباين الباب نحو النظر في موضوع تفاوت الدخل وحيثيات هذا التفاوت على مستقبل التنمية المستدامة في الوطن العربي. موضوع استرعى اهتمام مجموعة من الدراسات الاقتصادية أخيرا في محاولة لبحث الأسباب والحلول. صدر ملخص عن هذه الدراسات في نشرة صندوق النقد الدولي البحثية لحزيران (يونيو) الماضي، بهدف تسليط الضوء على أهم التساؤلات التي طرحتها الدراسات الاقتصادية الصادرة أخيرا حول موضوع تفاوت الدخل. ركزت هذه الدراسات على خمسة أسئلة جديرة بالطرح، مما يساعد على تسليط الضوء على تحدي تفاوت الدخل.
يدور السؤال الأول الذي تناولته هذه الدراسات حول أداة قياس تفاوت الدخل، وخلصت إلى أن أشهر هذه الأدوات هي معامل ''جيني''، من خلال اعتماده على حسابات مركبة لإحصاءات الناتج المحلي الإجمالي وثروات الاقتصاد المحلي الواحد لحساب ناتج يراوح بين صفر - الذي يعني أن توزيع الدخل متساو لجميع أفراد المجتمع، وواحد - الذي يعني عكس ذلك. تقودنا أداة قياس تفاوت الدخل إلى السؤال الثاني، الذي تناولته الدراسات الاقتصادية، والذي يدور حول وتيرة هذا التفاوت عبر العقود الماضية. تشير هذه الدراسات إلى أن تفاوت الدخل كان في اقتصادات العالم المختلفة يشكل نسبة قليلة قبل قرابة أربعة عقود، ثم حدثت تطورات مختلفة أسهمت في زيادة هذا التفاوت بين دخول السكان، كان ذروتها نهاية العقد الماضي. وعلى الرغم من إسهامات الدراسات الاقتصادية في واجهة زيادة الوتيرة أخيرا، إلا أن المؤشرات تدعم استمرار التفاوت بين دخول السكان في اقتصادات العالم المختلفة.
ساعدت هذه المؤشرات الدراسات الاقتصادية على بحث السؤال الثالث الذي يدور حول مسببات هذا التفاوت. وجدت هذه الدراسات أن أهم ثلاثة مسببات مترابطة لتفاوت الدخل عبر العقود الماضية، الأول، الدخول التدريجي للتقنية في عملية إنتاج المنتجات والخدمات المختلفة، ما أسهم في الاستغناء التدريجي عن العمالة المؤهلة التي كانت تؤدي الدور قبل دخول التقنية في العملية الإنتاجية. والثاني، إلى العولمة وما سببته من تصدير لهذه العمالة المؤهلة للانتقال للعمل خارج أوطانهم إلى دول أقل تطوراً في العملية الإنتاجية، لتؤدي الدور ذاته الذي كانت تؤديه في أوطانها قبل دخول التقنية في العملية الإنتاجية وبمقابل الأجر ذاته. والثالث، إلى تراجع تأثير النقابات العمالية في صناعة القرار الاقتصادي في الدول المتقدمة تقنياً، بسبب نقص عدد عمالتها المؤهلة من جراء تصديرهم لدول أقل تقنية.
تناولت الدراسات الاقتصادية في سؤالها الرابع انعكاسات تفاوت الدخول على رفاهية الأجيال المقبلة. وجدت هذه الدراسات أن أهم انعكاسات هذا التباين: أولا، الانخفاض التدريجي للقدرة الشرائية لشرائح المجتمع ذات الدخول المتدنية، بسبب ضغوط المجتمع عليهم في تنمية روح المقارنة بينهم وبين أقرانهم من شرائح المجتمع ذات الدخول العالية، وانعكاسات ذلك على لجوئهم إلى القروض الاستهلاكية الآنية على حساب دخولهم المستقبلية. وثانيا، النمو التدريجي للطبقية في المجتمع، وانعكاسات ذلك على امتداد الطبقية إلى نوعية الخدمات الأساسية في المجتمع من رعاية صحية وتعليمية. وثالثا، الانتقال التدريجي من مرحلة الهوية الواحدة للمجتمع الواحد إلى هويات متعددة داخل المجتمع الواحد، مرتبطة بالطبقية الناتجة مسبقاً بسبب انتقال ترسبات تفاوت الدخول من جيل إلى جيل.
تقودنا هذه الانعكاسات لتفاوت الدخول داخل المجتمع الواحد إلى النظر في السؤال الخامس والأخير الذي تناولته الدراسات الاقتصادية، الذي يدور حول الدور الحكومي لمعالجة هذا التفاوت وتحقيق العدالة في توزيع الدخل بين السكان. أوصت هذه الدراسات بثلاث توصيات للحكومات التي تعاني تفاوت الدخول بين مواطنيها. أولها، أن تقوم هذه الحكومات بتطوير وتنفيذ سياسات جديدة لإعادة توزيع الدخل. والثانية، إعادة النظر في تخصيص الخدمات الأساسية من رعاية صحية وتعليمية بما يضمن المساواة بين جميع أفراد المجتمع. والثالثة، الاستدامة على تطوير سياسات الحد الأدنى للأجور والتأكد من مواءمتها للنمو الاقتصادي في المجتمع.
تحدي تفاوت الدخول بين أفراد المجتمع الواحد موضوع مهم استرعى اهتمامات الدراسات الاقتصادية منذ عقود، عطفاً على صلته الوثيقة ببلوغ مستهدفات التنمية المستدامة من عدمه. أداة قياس تفاوت الدخل، ووتيرة نموه عبر العقود الماضية، ومسبباته، وانعكاساته على رفاهية الأجيال المقبلة، والدور الحكومي المنشود لمعالجة هذا التفاوت وتحقيق العدالة في توزيع الدخل بين السكان؛ هي أهم محاور تساؤلات الدراسات الاقتصادية في هذا الشأن.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي