مستقبل الاتحاد النقدي والاقتصادي الخليجي.. وقرارات المنامة
''تحقيق الاتحاد النقدي والاقتصادي بين دول المجلس بما في ذلك توحيد العملة،'' (المادة الرابعة: متطلبات الاتحاد النقدي والاقتصادي)، و''تنمية الاستثمارات المحلية والبينية والخارجية في دول المجلس، وتوفير بيئة استثمارية تتسم بالشفافية والاستقرار،'' (المادة الخامسة: البيئة الاستثمارية)، و''تنسيق الدول الأعضاء سياساتها على الصعيد الخارجي في مجال تقديم المعونات الدولية والإقليمية للتنمية،'' (المادة السادسة: المعونات الدولية والإقليمية). هذه ثلاث مستهدفات رئيسة تشكل مثلث الفصل الثالث، ''الاتحاد النقدي والاقتصادي''، من الاتفاقية الاقتصادية الثانية المقرة من المجلس الأعلى في دورته الثانية والعشرين التي عقدت في العاصمة العمانية مسقط قبل 11 عاما. تمثل الاتفاقية انتقال أسلوب العمل الخليجي المشترك إلى طور التكامل بعد اكتمال طور التنسيق المتفق عليه في الاتفاقية الاقتصادية الموحدة المقرة من المجلس الأعلى في دورته الثانية التي عقدت في العاصمة السعودية الرياض قبل 31 عاما. وعلى الرغم شمولية الاتفاقية الاقتصادية الثانية للمواضيع النقدية والاقتصادية وفق آليات وبرامج محددة، إلا أن ما تشهده الساحة التجارية من حراك تكاملي ما زال يسير بالوتيرة ذاتها منذ تأسيس مجلس التعاون الخليجي وحتى اليوم.
تشير أدبيات العلوم المالية إلى ثلاث نظريات رئيسة ذات ارتباط وثيق باستقراء مستقبل الاتحادات الاقتصادية. تتعلق الأولى بنمو المنظومة الاقتصادية ودور السياسة المالية في هذا النمو. وتتعلق الثانية بنمو الأصول المالية للمنظومة الاقتصادية ودور السياسة النقدية في هذا النمو. وتتعلق الثالثة بالتوافق البيني بين الدورات الاقتصادية التي يمر بها كل اقتصاد محلي واقع ضمن اتحاد نقدي مشترك. عديدة هي الفوائد عندما ننظر إلى الجانب النظري ونحاول توظيفه كمنظور مشاهد لمستقبل الاتحاد الخليجي بعدما كشفت القمة الخليجية الثالثة والثلاثون البارحة النقاب عن قرارات داعمة لقيام السوق الخليجية المشتركة والوحدة النقدية والاتحاد الجمركي.
تفترض النظرية الأولى أن أي منظومة اقتصادية تمر بدورة اقتصادية تكرر نفسها من عامين إلى ثمانية أعوام. تمر هذه الدورات الاقتصادية بأربعة مراحل متباينة من النمو والازدهار، حيث تبدأ الدورة الاقتصادية من حالة الركود الاقتصادي ثم تنتقل إلى حالة نمو مرورا بحالة ازدهار وصولا إلى حالة انكماش قبل أن تدخل في دورة اقتصادية جديدة. تعد السياسة المالية وكفاءتها في استثمار الفرص ومواجهة التحديات الاقتصادية المساهم الرئيس في هذه الدورة ومراحلها المختلفة.
وتفترض النظرية الثانية أن الأصول المالية التي تعد المحرك الرئيس للدورة الاقتصادية تمر بتسع مراحل تهدف في نهاية مطافها إلى تكوين أصول مالية. تعد المراحل الأربع الأولى مراحل تراجع، والمرحلة الخامسة مرحلة انتقالية، والمراحل الأربع الأخيرة مراحل نمو. تبدأ مرحلة تكوّن الأصول مباشرة بعد فقاعة اقتصادية وتنتهي بتولد فقاعة اقتصادية جديدة. فالمرحلة الأولى تتراجع السياسة النقدية، ما يؤدي إلى انفجار الفقاعة الاقتصادية. والمرحلة الثانية، انخفاض أسعار الأصول، ما يؤدي إلى تراجع أحجام المشاريع الاقتصادية. تسهم هذه المرحلة في زيادة حجم الديون ومن ثم توجه المنظومة الاقتصادية إلى الركود. والمرحلة الثالثة، تتوقف السياسة النقدية عن أداء عملها مع توقف القدرة على سداد الديون فتبدأ السياسة المالية في أداء دورها بمفردها. والمرحلة الرابعة، تتمكن المشاريع الاقتصادية من الوفاء بديونها بعد فترة من السداد ومعلنة قرب انتهاء حالة الركود الاقتصادي مع بقاء أسعار الفائدة منخفضة والاقتصاد متقلب والنفسية متوترة. والمرحلة الخامسة يتلاشى التوتر النفسي من استمرار الركود الاقتصادي وتبدأ فرص تمويل المشاريع الجديدة تلوح في الأفق معلنة بداية النمو الاقتصادي. والمرحلة السادسة يتحسن مستوى عرض تمويل المشاريع الاقتصادية وتبدأ السياسة النقدية في العمل من جديد بعد توقفها خلال المرحلة الثالثة. والمرحلة السابعة تحل السياسة النقدية محل السياسة المالية في أداء دورها الطبيعي في المنظومة الاقتصادية. والمرحلة الثامنة تعود الثقة للقطاع الخاص في أخذ زمام المبادرة في تنفيذ المشاريع الاقتصادية بعد الشعور بالنمو الاقتصادي. والمرحلة التاسعة والأخيرة تزداد ثقة القطاع الخاص زيادة أكثر من المأمول، ما يشكل إعلان تكوّن فقاعة اقتصادية جديدة.
أما النظرية الثالثة، فهي تفترض أن أحد الأسباب الرئيسة لنجاح أي اتحاد وحدة نقدية مشتركة أن تكون الدورة الاقتصادية التي يمر بها كل اقتصاد محلي على حدة ضمن اتحاد اقتصادي منسجم ومتوافق مع ما تمر به الاقتصادات المحلية الأخرى. على سبيل المثال، عندما يمر الاقتصاد السعودي بمرحلة نمو اقتصادي وزيادة في الإنفاق الحكومي وتراجع في معدلات البطالة والتضخم، فإنه من الأهمية أن تكون جميع اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي تمر بذات مراحل النمو وتسجل مستويات متقاربة في المؤشرات الاقتصادية. وعندما يتوافر هذا الشرط تكون فرصة نجاح الوحدة النقدية بين مجموعة الاقتصادات المحلية مسألة وقت لا أكثر، والعكس صحيح.
صدرت دراسة مطلع العام الحالي من صندوق النقد الدولي بعنوان ''تقلبات القطاعات غير النفطية في دول مجلس التعاون الخليجي''. هدفت الدراسة إلى التعرف على مراحل نمو اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي للتعرف على فرص نجاح الوحدة النقدية الخليجية. قدمت الدراسة مجموعة من الملاحظات حول وجود درجة ليست بالقليلة من عدم الانسجام والتوافق بين الدورات الاقتصادية التي تمر بها القطاعات غير النفطية في دول مجلس التعاون الخليجي. من الأمثلة على ذلك أن استثمارات القطاع الخاص بين الكويت والبحرين سجلت معدل توافق بلغ 30 نقطة، بينما سجل ذات المعدل تراجعا بمقدار -71 نقطة بين الكويت وقطر. والصادرات غير النفطية بين البحرين وقطر سجلت معدل توافق بلغ 57 نقطة، بينما سجل ذات المعدل تراجعا بمقدار -87 نقطة بين السعودية والكويت.
الاتحاد النقدي والاقتصادي الخليجي مشروع طموح يهدف إلى نقل اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي من مرحلة ترابط إلى مرحلة كيان واحد. جهود حثيثة تقوم بها السلطات المالية والنقدية بدول المجلس، ما من شأنه تذليل التحديات نحو ظهور هذا المشروع الطموح. وعلى الرغم مما تشهده الساحتان المالية والنقدية الخليجية من جهود دؤوبة نحو بلوغ الهدف الطموح، إلا أن الساحة التجارية ما زالت تسير بالوتيرة ذاتها منذ تأسيس مجلس التعاون الخليجي وحتى اليوم. من الأهمية التأكيد على ضرورة أن تواكب العلاقات التجارية الخليجية جهود السلطات المالية والنقدية في دول المجلس نحو إصدار الوحدة النقدية الخليجية.