مشاهد القبض على مختلس
المشهد الأول: تبدو الأمور طبيعية أمام البنك، يدخل موظف المؤسسة بحرص شديد لإيداع إيرادات اليوم، يملأه القلق ألا تتم سرقتها من بين يديه قبل أن تتم عملية الإيداع. وكما هي العادة يقوم موظف البنك بتسلم المبالغ ثم يصنفها حسب الفئات (خمسمائة ومائة ... إلخ). وهكذا يعطي الموظف إيصالات بالمبالغ التي تم إيداعها. يعود الموظف إلى مؤسسته بعد أن وضع هذا الحمل عن كاهله ولم يكن يعلم أن المبالغ قد سرقت من يديه فعلا! لقد قام موظف البنك بطباعة جميع الإيصالات التي أعطاها للموظف بطريقة مبتكرة، فقد وضع الإيصالات في الطابعة دفعة واحدة بحيث تظهر الأرقام التي طبعتها الطابعة على كل رزمة بالرقم والقيمة نفسيهما. بينما يحصل موظف المؤسسة على أكثر من صورة تمثل مجموع ما قام بإيداعه فإن ما أثبته موظف البنك هي دفعة واحدة فقط من المبالغ واختلس الباقي. وهكذا كان الموظف يحصل على إيصالات لأكثر من عملية إيداع بينما لم تنفذ فعليا سوى عملية واحدة. وللتوضيح بالأرقام كان أمين الخزانة يأتي ومعه 100 ألف ريال مثلا، يقوم موظف البنك بتقسيمها خمس مجموعات (بادعاءات متنوعة) وكل مجموعة من 20 ألف ريال. يطبع الإيصالات بقيمة 20 ألفا لكنها طبعت مرة واحدة فظهرت برقم واحد في صور الإيداعات وهكذا تم إيداع 20 ألف ريال فعلا بينما اختلس الموظف 80 ألف ريال.
تمر شهور عدة قبل أن تكتشف العملية برمتها، فقد كان فريق المراجعة المكلف بمتابعة أعمال المؤسسة يقوم بعملية فحص عادية لإيصالات الإيداع مع المثبت في الدفاتر وكذلك جرد الخزانة، كانت الأمور تمر بهدوء على أمين الخزانة في المؤسسة وعلى الفريق أيضا، فقد كان رجلا موثوقا به فعلا، وكان أيضا واثقا من أعماله وقام بكل أمانة ولسنوات عدة بإدارة خزانة المؤسسة وإيداع المبالغ إلى البنك في مواعيدها، كما أن لديه إيصالات تسلم مثبتة وموقعة. وفعلا قام فريق المراجعة بالتأكد من كل ذلك، لكن أحد المراجعين قرر تتبع تسلسل أرقام الإيصالات بشكل خاص (وهي عملية لا تتم عادة إلا في وجود مشكلة عجز في الخزانة) وفجأة وجد الرقم يتكرر لعدد من الإيصالات وبالقيمة نفسها، أي أنها تمثل صورا لإيصال واحد ولقيمة واحدة تكررت أكثر من مرة، وهذا لا معنى له. بدأ الشك المهني يأخذ مكانا لدى المراجع فقرر تتبع عدد آخر من الإيصالات ووجد المشكلة نفسها تتكرر، مرتين أو ثلاث على أقل كل شهر، وهكذا وصل الشك إلى ذروته عند المراجع، فهناك من يتلاعب في الإيداعات بلا شك. طلب المراجع كشوف حسابات البنك من بداية السنة وبعد عمل مرهق وتسويات مضنية لأيام عدة نظرا لضخامة أعمال المؤسسة تبين أن هناك عجزا في حساب البنك. وبمطابقة قيمة العجز مع قيمة الإيصالات المتكررة تطابقت الأرقام. لقد كان هناك اختلاس ومختلس فعلا .. لكن مَن هو؟
بالطبع بدأ الشك في أمين الخزانة لكن إيصالات التسلم المتكررة أصلية فعلا وليست مزورة، فأمين الخزانة ذهب للبنك والموظف أعطاه تلك الإيصالات بعد أن وقعها. وبعد الاستفسار من أمين الخزانة عما كان يحدث فعلا، بدأ الشك في احتمالية وجود اتفاق بين أمين الخزانة وموظف البنك، وللفصل في الأمر كان لا بد من العودة للبنك وإطلاع المدير على الموضوع، وبدأت إدارة المراجعة الداخلية لدى البنك بدورها وتم الحصول على كل المستندات ذات العلاقة من البنك والإيصالات، وتبين فعلا أن موظفا كان يودع مبلغا واحدا (20 ألفا) ويصدر عليه عددا من الإيصالات بمثل المبلغ الذي حصل عليه من أمين الخزانة (100 ألف)، بينما كان أمين الخزانة فخورا بإنجاز أعماله وإيداعه مبلغ 100 ألف كان الموظف يخرج ومعه 80 ألفا (والأرقام هنا للتوضيح فقط). كانت القضية واضحة والاختلاس مكتمل الأركان، لكن بقيت قضية واحدة: هل كان أمين الخزانة متفقا في هذا مع موظف البنك؟ تبين من خلال التحقيقات أن هذا لم يحدث، ومع ذلك لم يزل احتمالا واردا على كل حال. بالطبع لم يكن لقضية مثل هذه أن تكتشف لو لم يمارس المراجع أعماله بمهنية وبمفهوم الرجل الحريص، فقد جمع الأدلة المناسبة وكان يتحفظ بشك مهني طوال عملية المراجعة، وذلك رغم سمعة أمين الخزانة ومظهره الصادق البريء. وهو فخ يقع فيه المراجعون عندما يتعاملون من أناس صادقين، لكن هؤلاء الصادقين وقعوا دون علمهم في فخ آخرين متمرسين على الجريمة، لو أن المراجع اكتفى بشعوره بصدق الأمين ثم لم يتابع تسلسل الأرقام لم يكن لهذه القصة أن تكتشف في الوقت المناسب.
المشهد الثاني: يصل المواطن للمدير المالي ومعه المعاملة متكاملة ويرغب في الحصول على الخدمة المطلوبة. ومن ضمن الأوراق المطلوب استكمالها إيصال تسلم مبلغ من أمين الصندوق، بينما المدير المالي يستعد للتوقيع انتبه فجأة لأمر ما. كانت الأمور كعادتها تسير بشكل جيد، فلا مشكلات تواجه أمين الصندوق، كما كان يتعين على أمين الصندوق – كإجراء رقابي - ألا يستخدم إيصالات السنة الماضية بأي شكل وعليه أن يصدر لكل سنة إيصالات جديدة برقم مسلسل جديد. ببساطة كان عليه أن يستخدم ملزمة جديدة من الإيصالات المتسلسلة. كان المعمول به في المؤسسة أن تتم طباعة الملازم لكل سنة بالشكل والتصميم نفسيهما تسهيلا لعملية الطباعة، لكن لظرف ما تم إجراء تغيير بسيط في شعار المؤسسة وتمت طباعة إيصالات استلام جديدة تماما بالشعار الجديد، وهو ما لم ينتبه له أمين الصندوق الذي كان يمارس عملية احتيال بسيطة لكنها خطيرة. كان إذا احتاج إلى مبلغ ما وجاءه مواطن بتوريد مبلغ للخزانة يصدر له إيصالا بالاستلام من ملزمة سنوات سابقة، وبذلك تبقى ملازم السنة الحالية بلا تزوير وبالطبع لا يقوم بتسجيل تلك العملية في دفاتر الصندوق وهذا يمنحه فرصة أخذ المبلغ وإذا تم جرد الدفاتر ومطابقتها مع إيصالات السنة الحالية والمبلغ الفعلي في الصندوق لم تكن هناك مشاكل تذكر ولا يوجد عجز (وهو مختلس فعلا لعدة مبالغ). كانت الأمور تتم ببساطة وسهولة ولم يستطع أحد كشف هذا الموظف حتى تغير الشعار الصغير في أعلى الإيصالات. فعند اختلاسه مبلغ تسديد اشتراكات أحد المواطنين استخدم كعادته الإيصالات القديمة. لم يلاحظ المواطن طبعا لكنه عندما ذهب بالأوراق للمدير المالي انكشف التلاعب كله عندما لاحظ المدير أن الشعار في أعلى الإيصال هو الشعار القديم. تم استدعاء الموظف للتحقيق معه وانكشف التلاعب كاملا. بالطبع لو أن المراجعة الداخلية فاعلة في هذه المؤسسة لم تكن لتلك الحوادث أن تظهر ولو أنه تم جرد جميع الإيصالات في نهاية السنة ثم تم حفظها بعيدا عن أمين الخزانة لما حدث مثل هذا.
الاختلاس يحدث دائما عندما تكون هناك فرصة وسبب وقدرة على التبرير. وبقدر ما نعمل وفقا لمنطق الرجل الحريص ونحمل معنا شكا مهنيا فإننا سنكون قادرين على منع هذه المشاكل وحماية الناس من أنفسهم وحماية أعمال المؤسسات.