ضغوط العمل تحوّل «الدرج» إلى صيدلية صغيرة

اتجهت الموظفة الجديدة إلى زميلتها المخضرمة طالبة منها ''حبة بنادول'' لتخفيف صداع ''اليوم الأول''، وما إن فتحت الأخيرة درج مكتبها لتفتش عن ''شريط البنادول'' وسط ركام من الأدوية، حتى شهقت الفتاة من هول المنظر، أخبرتها ''المخضرمة'' أن درج مكتبها تحول بمرور الوقت إلى ''صيدلية صغيرة'' تحتوي على حبوب ضغط الدم والسكري والكوليسترول والقولون العصبي!
هذا مصير البعض منا ما لم نسيطر على ضغوط العمل، فقد نضطر على المدى البعيد إلى افتتاح ''صيدليات صغيرة'' في أدراج مكاتبنا، تحتوي على كوكتيل من الأدوية التي تعيد ضبط توازنات الجسم (ترفع المنخفض وتخفض المرتفع). أما على المدى القصير، فقد تدفع ضغوط العمل أحدنا إلى نوبة غضب أو ارتكاب سلوك عنيف، كما نشاهد في ''يوتيوب'' حين يقدم موظف غاضب على تحطيم شاشة الحاسب أو الاعتداء على أحد زملائه!
ومن حسن الحظ أن ''وزارة الصحة'' كشفت لـ ''الاقتصادية'' عن شروعها في إجراء مسح ميداني شامل في جميع مناطق السعودية لمعرفة آثار ضغوط العمل في صحة الموظفين السعوديين، بالتعاون مع جامعة الملك سعود ومركز الأبحاث في مستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأمير سلمان لأبحاث الإعاقة.
ومن المقرر أن تستغرق هذه الدراسة – التي كنت أتمنى مشاركة وزارتي الخدمة المدنية والعمل فيها - ثمانية أشهر بهدف معرفة آثار ضغوط العمل والحياة في صحة الإنسان، ومعرفة الطرق المناسبة لمنع تأثيرها وطرق الوقاية منها، لا سيما أن إحدى الدراسات المحلية كشفت أخيرا أن نحو 70 في المائة من الموظفين في السعودية يشعرون بدرجة كبيرة من الضغوط في العمل، وهي الضغوط التي عرفها المصدر المسؤول في ''وزارة الصحة'' بأنها: ''تلك التي يحدثها العمل أو التي يتعرض لها العاملون في بيئة العمل، إما لطبيعة العمل أو نتيجة ممارسات ترتبط بنظام العمل بشكل مباشر أو غير مباشر ولفترة طويلة من الزمن''.
لقد ازدادت الضغوط على بني البشر ليس في بيئة العمل فحسب، بل امتدت إلى كل مناحي الحياة، في البيت والشارع والمدرسة والجامعة، أصبح الإنسان يجري ليلا ونهارا لاستيفاء المتطلبات الأساسية في الحياة، ناهيك عن أن يفكر في تحقيق الرفاهية، وترتب على هذا الجري المتواصل متاعب صحية ونفسية واجتماعية لهذا الإنسان الكادح.
وتنعكس آثار ضغوط العمل على صحة الموظف ونفسيته في صور مختلفة، منها: القلق المستمر، والاكتئاب، والإنهاك، وعدم القدرة على التركيز، والشد العضلي، وسوء الهضم، والشعور بالصداع المزمن، والإصابة بارتفاع ضغط الدم، والزيادة في دقات القلب، وفقدان الرغبة بالعمل أو حتى فقدان الرغبة الحميمة، أما على المستوى الاجتماعي، فإن الموظف - مع تزايد ضغوط العمل - ينزع إلى العزلة والوحدة، وقد يلجأ إلى تعاطي الكحول أو المخدرات أو الإفراط في التدخين، وقد تتوتر علاقته بأفراد أسرته، خاصة إذا حاول ''تنفيس'' هذه الضغوط عليهم بنوبات غضب غير مبررة.
من وجهة نظري، فإن التعامل مع ضغوط العمل يتم على مسارين متوازيين، المسار الأول: ''التنظيم'' وهذا مسار تتحكم فيه جهة العمل بالدرجة الأولى، أما المسار الثاني فهو: ''التنفيس'' وهذا يتحكم فيه الموظف.
ويتم ''التنظيم'' عبر ثلاثة أشكال رئيسة: تنظيم العمل، وتنظيم علاقات العمل، وتنظيم مكان العمل، وكلها تسهم في الحد من الفوضى ومشكلات التعامل وترسم حدودا واضحة للموظفين وإداراتهم، ومن الحلول على مستوى تنظيم العمل:
- وضع سياسات وإجراءات عمل واضحة وبسيطة ومعلنة، بحيث يسير على نهجها المديرون والموظفون.
- تحديد أوصاف وظيفية للموظفين تسرد مهامهم ومسؤولياتهم من دون تداخل، مع الحرص على أن يتماشى حجم المهام والمسؤوليات مع حجم الصلاحيات الإدارية والمالية الممنوحة وتوافر الموارد والأدوات اللازمة للعمل.
- تحديد اختصاصات كل إدارة بشكل حاسم للتخلص من أي ''مناطق رمادية'' قد تكون بين الإدارات وتسبب ضياعا للمسؤولية فيما بينها.
ومن الحلول على مستوى تنظيم علاقات العمل:
- توزيع الأعمال بين الموظفين بصورة عادلة، وتحديد الارتباط الإداري لكل موظف مع تجنب الارتباطات المزدوجة (أن يكون للموظف مديران في وقت واحد يتلقى منهما التعليمات!).
- تدريب الموظفين على التواصل الجيد فيما بينهم سواء عند المحادثة أو النقاش في الاجتماعات أو حتى عند التراسل عبر البريد الإلكتروني.
- تشجيع الموظفين على التمتع بالإجازات السنوية، والتنسيق بين موظفي الإدارة الواحدة للتناوب في الإجازات دون تعطيل للعمل.
أما الحلول على مستوى تنظيم مكان العمل:
- الحرص على تناسب مساحة المكتب مع أعداد الموظفين، مع إعطاء كل موظف حيزا كافيا يمكنه من العمل دون تطفل أو مضايقات أو انقطاعات، مع التحقق من التهوية والإنارة والتجهيزات المكتبية الأخرى.
- توفير النباتات - كنباتات الظل - في المكاتب، فقد أظهرت دراسة سويدية أن وجود النباتات في المكاتب يخفف من تعب وإجهاد الموظفين، ومن تعرضهم لأوجاع الرأس والسعال وجفاف البشرة والحنجرة، كما أن رؤية الموظفين النباتات في المكتب ترفع إنتاجيتهم بمعدل 12 في المائة، وتخفض عدد أيام الغياب لأسباب مرضيّة، كما أن دراسة أمريكية أخرى توصلت إلى أن وجود النباتات يفيد الموظفين الذين يعملون في مكاتب بلا نوافذ فيها!
أما على مستوى ''التنفيس'' (إخراج الطاقة السلبية أو الغضب المكبوت)، فيمكن للموظف أن يمارس الرياضة قبل بدء الدوام أو بعد الانتهاء منه، ومن أفضل الرياضات لتخفيف الضغط المشي والسباحة، كما أننا ننصح الموظف إذا وصل إلى بيته أن يبتعد عن الأجهزة - الذكية منها والغبية – وأن يقضي وقتا ماتعا بصحبة أسرته إما لممارسة ألعاب أو هويات أو حتى لتبادل الأحاديث. تلك كانت مجموعة من النصائح لعلها تفيدكم وتبعد عنكم ضغوط العمل والحاجة إلى الأدوية وتهشيم الأجهزة!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي