لماذا يبحث البعض عن علاج «التوحد» في الخارج؟

كان لي على هامش - لقاء عمل - في أحد مراكز تأهيل المعوقين في المملكة أخيرا وقفة على واقع الخدمات العلاجية والتأهيلية لشريحة غالية على قلوبنا في المجتمع تعاني إعاقة جسدية أو عقلية، وكذلك تلمس تطلع ومعاناة أولياء أمور هذه الشريحة في جوانبها العلاجية والمعنوية والمادية، وحيث إن الاضطراب السلوكي ''التوحد'' أصبح من الأمراض الملاحظ تسارعها في العقد الأخير من الزمن في مختلف دول العالم، لذا أجد أنه من المناسب تسليط الضوء عليه كمثال عملي للإعاقة العقلية والسلوكية في مجتمعنا المحلي الذي يعاني ضعف التشخيص الدقيق وعدم توافر جميع الخدمات العلاجية والتأهيلية والسلوكية المطلوبة، إضافة إلى ندرة المختصين. تشير بعض التقديرات إلى أن عدد المصابين في ازدياد مستمر في السعودية بأكثر من نسبة 10 في المائة، كما تشير بعض الإحصاءات إلى وجود ما يقارب 250 ألف طفل توحدي، أكثر من 420 سعوديا مصابا بالتوحد يتلقون العلاج في دول عربية مجاورة بسبب عدم وجود المراكز التأهيلية الكافية والمناسبة للعلاج السلوكي داخل المملكة.
التوحد هو اضطراب في الجهاز العصبي يصيب الجهاز التطوري للطفل ويظهر خلال السنوات الثلاث الأولى من عمر الطفل، وهناك ثلاثة أنواع من التوحد (التوحد الكلاسيكي، اضطراب التوحد غير مكتمل العلامات ''طيف التوحد''، متلازمة أسبرغر)، والتوحد يؤدي إلى تأخر تطور الطفل في ثلاثة جوانب رئيسية (الجانب الأول هو المهارات والتفاعل الاجتماعي للطفل، خاصة التواصل البصري، والجانب الثاني الذي يؤثر فيه التوحد هو التواصل واللغة، حيث إنه في أغلبية الحالات يتأخر الأطفال في النطق إلى عمر الـ 16 شهراً، كما أن هؤلاء الأطفال لا يتمكنون من تكوين جملة من كلمتين حتى عامهم الثاني، والجانب الثالث هو الضعف في اهتمامات الطفل، إضافة الى إظهاره سلوكيات حسية خارجة عن المألوف).
الأبحاث والدراسات ما زالت تشارك المجتمع التوحدي نسبة القلق والتخوف بسبب التباين في النتائج والتجارب في هذا الخصوص، فبينما تذكر بعض الدراسات علاقة الملوثات البيئية بالتوحد ونسبة المعادن الموجودة لدى أطفال التوحد، خصوصا الأطفال الذين يعيشون في أماكن بها تلوث بيئي أو إشعاعي، فقد أظهرت دراسة الوكالة الأمريكية لحماية البيئة للتعرف على مستويات التلوث لعدد من المناطق في ولاية كاليفورنيا أن الأطفال الذين يتعرضون للتلوث في منازلهم أكثر عرضة لمرض التوحد ثلاث مرات مقارنة بالأطفال الذين يقيمون في منازل فيها مستويات أقل من التلوث، بعض أطفال التوحد تحتوي أجسامهم على نسبة زائدة من المعادن الثقيلة مثل الرصاص والزئبق، وهذه المواد لها ضرر كبير على عملية التواصل، فزيادة نسبة عنصر الرصاص في جسم الإنسان تعتبر أمرا خطيرا وساما عند الأطفال في مرحلة النمو والتطور، حيث يلاحظ عليهم تراجع في معدل الذكاء (IQ) بمعدل درجة أو درجتين، وفي المقابل تحدثت دراسة علمية أخرى عن وجود مستويات مرتفعة من الأجسام المضادة للبروتين المايليني الأساسي المغلف للأعصاب وفي الأجسام المناعية المضادة الموجودة في الغلاف الخارجي للخلايا العصبية الذي له علاقة بالتوصيل العصبي داخل مخ الإنسان كانت أعلى في المصابين بالتوحد وسبب رئيس في حدوث اضطراب وطيف التوحد.
يعتبر التدخل العلاجي المبكر ''محورا رئيسا'' في الحد من تسارع أعراض ومعاناة الطفل التوحدي، حيث تصنف السنة الثانية من عمر الطفل بالفترة الزمنية ''الحرجة'' عطفا على ملاحظة وتسارع الأعراض والسلوكيات بالتزامن مع التأخر في النطق، حيث تبدأ رحلة القلق والتخوف والحيرة عند البحث أولا عن التشخيص الدقيق، وبعدها البحث عن المراكز العلاجية والتأهيلية المحلية، مرورا بالتكلفة المالية التي يتكبدها البعض في التسجيل والدراسة في المراكز الخاصة أو العلاج خارج المملكة، مشاعر القلق والحساسية الملاحظة عند الأسرة من ضعف قدرة الطفل على التعليم والتواصل في محيط العائلة والمجتمع.
يمكن لنا تلخيص المعوقات والاحتياجات مع ''استشراف'' واقع الخطوات والحلول المنشودة في مجتمعنا المحلي في المحاور التالية: (التوسع في إنشاء مراكز تشخيصية علاجية وتأهيلية حكومية في جميع المدن مع الطاقم الطبي والتأهيلي والاجتماعي والنفسي المؤهل، وكذلك الأجهزة والمعدات الحديثة مع الأخذ في الاعتبار دقة اختيار موقع المبنى وملاءمته البيئية لمعطيات السلامة الصحية وتوافر الطبيعة والمسطحات الخضراء، إدراج ''فحص الكشف والتشخيص لمرض التوحد'' في عيادات طب الأسرة والمجتمع في مراكز الرعاية الصحية الأولية، كذلك عند التسجيل للمراحل الدراسية التمهيدية والابتدائية في الوحدات الصحية المدرسية، الدور القيادي المطلوب من وزارة التربية والتعليم في الحرص على دمج الطلاب التوحديين ومتابعتهم من خلال استحداث قسم خاص في جميع المدارس الحكومية في المدن الرئيسة تحت اسم ''المتابعة والتأهيل الاجتماعي والنفسي'' للإعاقة الجسدية والفكرية وليس للنطق والتخاطب فقط، تشكيل لجنة أو هيئة ''عليا'' تضم في عضويتها المنظومات الحكومية ذات العلاقة مثل (وزارة الشؤون الاجتماعية، وزارة التربية والتعليم، وزارة الصحة، لجنة الشؤون الصحية في مجلس الشورى، أمانات المناطق، وزارة المالية) بهدف توفير الدعم التخطيطي والخدماتي والمالي لشريحة الإعاقة والتوحد في المملكة، تدشين مراكز للدراسات والبحث العلمي والتربوي للإعاقات الجسدية والفكرية في المحافظات الرئيسة، رفع قيمة الحوافز والإعانات المالية المخصصة لشريحة الإعاقة والتوحد بعد مراجعة تصنيف مخصصاتها الحالية، تشجيع وتنمية ودعم الإبداع والموهبة لدى الطفل التوحدي وتوظيف هذا الجانب في ضمان المستقبل الوظيفي، التوسع في تفعيل جودة ونوعية ''التوعية الاجتماعية'' ونشرها في المجتمع المحلي بصفة عامة بهدف تحقق التواصل المنشود).

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي