شركتكم تصنع الساعة أم تخبركم بالوقت؟
إن القراءة في تاريخ الأعمال business) (history قراءة آسرة، فهذا التاريخ المتفرع من التاريخ الاقتصادي، يكشف لنا مسيرة الشركات من النهوض إلى بلوغ قمة المجد أو مشارف الهاوية، نتدبر في قصص النجاح والفشل، لعلنا نتعظ إداريا وماليا وتشغيليا من دروس غيرنا، ونتجنب اقتراف الأخطاء ذاتها عند تعاملنا مع العملاء والموظفين وغيرهم من أصحاب المصلحة.
وعندما نتدبر في تاريخ الشركات، لا بد أن نتساءل: ما سر نجاح شركات دون شركات؟ ولماذا لم تفلح الشركات التي قلدت غيرها حتى لو سرقت ''وصْفة'' نجاحهم؟ السؤال ذاته الذي يطرحه قرّاء التاريخ السياسي، حين يحاولون الإجابة عن أسباب نهوض الدول وسقوطها، عن ديمومة البعض واختفاء البعض الآخر من على خريطة المكان والزمن!
الأسبوع الماضي، تناقلت الصحف تقارير عن المنافسة الشرسة في سوق ''الهواتف الذكية''، حيث بيعت فيه 653 مليون هاتف ذكي خلال عام 2012 حول العالم، واستحوذت شركتا ''أبل'' و''سامسونج'' على كبرى حصص البيع، وهنا تذكرت طيبة الذكر ''نوكيا'' التي كانت يوما ما متربعة في أسواق العالم بلا منازع.
كانت شركة نوكيا الفنلندية قد استحوذت على أسواق الهواتف الجوالة في العالم خلال الفترة 2000- 2005، ثم بدأت شركة آر آي إم الكندية المصنعة لجهاز ''بلاكبيري''، باكتساح السوق عام 2005، محققة أرباحا وصلت إلى 206 ملايين دولار مقارنة بـ52 مليون دولار في عام 2004، وظلت الشركة الكندية تحقق أرباحا عالية حتى حزيران (يونيو) 2011، حين بدأ كيانها يهتز بدخول شركتي ''أبل'' الأمريكية المصنعة لجهاز آيفون، و''سامسونج'' الكورية المصنعة لجهاز جالاكسي، وها هي ذي المؤشرات تتجه إلى تراجع ''أبل'' وسيطرة ''سامسونج'' بمفردها على السوق!
السؤال: كيف سادت ''نوكيا'' ثم بادت؟ ولماذا لم تصمد ''آر آي إم''؟ ولماذا بدأت ''أبل'' تترنح بعد أقل من عامين من رحيل ''ستيف جوبز''؟ هل هي دورة الزمن؟ وهل ستظل ''سامسونج'' تحافظ على مكانتها وتقاوم منافسيها بكل ضراوة؟
من أروع الكتب التي تساعدنا دوما على العثور على إجابات شافية لتلك الأسئلة، كتاب ''أسست لتدوم'' Built to Last الذي ألفه جيري بوراس وجيم كولينز، الأستاذان في جامعة ستانفورد الأمريكية (كلية الأعمال)، إذ يحوي الكتاب خلاصة بحثهما المشترك الذي امتد طوال ستة أعوام، وكان يسعى للإجابة عن السؤال الهاجس الذي يدور في أذهاننا: ما الذي يميز الشركات الاستثنائية عن غيرها؟
لقد درس المؤلِّفان 36 شركة أمريكية أسست قبل عام 1950، وأخضعوها لمجموعة من المعايير، ثم قسموها إلى مجموعتين، المجموعة الأولى ضمت 18 شركة صنفت بأنها ''رائدة'' visionary company، ويقصد بالشركة الرائدة – حسب تعريف المؤلفين – الشركة المتميزة في قطاعها التي لاقت إعجابا من منافسيها، وحققت أثرا بارزا في مجالها من حيث طرح المنتجات أو الخدمات، أما المجموعة الأخرى فقد ضمت 18 شركة منافسة للشركات الرائدة، وتمت مقارنة الرائدة بالمنافسة، حيث قورنت ''بوينج'' (شركة رائدة) مع ''ماكدونال دوجلاس'' (شركة منافسة)، وقورنت ''أميركان إكسبرس'' مع ''ويلس فارغو''، و''فورد'' مع ''جي إم''، وقورنت ''سوني'' مع ''كينوود''، وهكذا.
ويتضح بعد استنتاجات عدة أن الشركات الرائدة – وفق ما توصل إليه المؤلفان - قادرة على تحقيق المعادلة الصعبة التي تتلخص في ''الحفاظ على الأصالة ومواكبة التطور'' Preserve the Core, Stimulate Progress، فالحفاظ يشمل ''ثوابت الشركة'' أي القيم والأهداف التي آمن بها مؤسسوها، تلك ''الثوابت'' التي يجب ألا تمس بمرور الزمن، أما المواكبة، فتطول ''المتغيرات'' كالسياسات والإجراءات والخطط والعمليات والممارسات.
كما أن الشركات الرائدة تتصف بقواسم مشتركة تميزها عن نظيراتها، ومن ذلك أنها تتمسك بـ ''عقيدة إدارية'' تقوم على مجموعة من القيم والمبادئ، وتضع لنفسها أهدافا كبرى لا تحيد عنها، وتمتلك ثقافة تنظيمية يلتزم بها الموظفون، وتغامر بتجربة المنتجات والخدمات الجديدة، وترفض مفهوم ''الفكرة العظيمة'' - إحدى الخرافات المذكورة أدناه- وتحافظ على قدراتها في مجال التطوير والابتكار.
على المنوال ذاته، بدد المؤلفان 12 خرافة إدارية – من وجهة نظرهما - مثل مفهوم ''الفكرة العظيمة''، و''زيادة الأرباح هو الهاجس الأوحد للشركات الرائدة''، و''الشركات الرائدة تعد بيئة عمل ملائمة لجميع الموظفين''.
فقد تورط الكثير من الشركات الناشئة والمخضرمة – منها شركات عربية - في مأزق ''الفكرة العظيمة''، وهي اشتراط بعض مؤسسي الشركات امتلاك ''فكرة خارقة'' لمنتج أو خدمة عند انطلاق الشركة، مع أن البحث أثبت أن بعض ''الشركات الرائدة'' بدأت متخبطة في أعمالها ودون هوية واضحة، وظلت تجرب وتخطئ حتى سارت على النهج الصحيح، فمثلا مؤسسا ''هيولت باكارد'' عقدا الشراكة من مرآب سيارة (كراج) دون رؤية معلومة، وجربا العديد من الأفكار إلى أن حددت الشركة بعد سنوات توجهها الاستثماري.
الطريف في الموضوع أن شركة رائدة مثل ''سوني'' كانت قد بدأت بصنع منتجات كانت محل سخرية من منافسيها، ومن ذلك أنها أنتجت ''قِدر ضغط'' قبل أن تتخصص وتتبوأ مكانتها المرموقة في صناعة الإلكترونيات، فالشاهد من هذا أن البداية المتخبطة لأي شركة لا يمنعها من أن تصحح مسارها، وتحدد هويتها الاستثمارية، وتنتقي الخدمات والمنتجات التي يفترض أن تطرحها في الأسواق.
ومن الخرافات التي جرى نفيها، أن الشركات الرائدة تعد بيئة عمل جذابة لجميع الموظفين، والحقيقة أن الثقافة التنظيمية لتلك الشركات ''متشددة'' من حيث تمسكها بالقيم والمبادئ، و''صارمة'' في إلزام موظفيها بالمعايير المطلوبة، وبالتالي فإن الموظفين المتقاعسين لا يستطيعون مواصلة العمل في تلك البيئات، فيضطرون إلى الخروج منها، إذن، هي شركات جاذبة للأفراد القادرين على الالتزام بالثقافة التنظيمية وطاردة لغيرهم.
أخيراً، هناك ارتباط وثيق بين استدامة ''الشركة الرائدة'' على المدى البعيد وفكرة ''صناعة الساعة والإخبار بالوقت''، فالشركات الرائدة تتمتع بـ ''ثقافة تنظيمية'' تغرس القيم والمبادئ وتترسخ بطريقة تستمر مع مرور الأجيال الإدارية التي تقود الشركة، إذ لا ترهن هذه الشركات نفسها لذوات الأفراد المؤسسين، ولذلك نجد أن أستاذَا ستانفورد يعارضان بشدة فكرة ''القائد الملهم'' (القائد صاحب الكاريزما) الذي يدير الشركة، فهما يؤكدان ضرورة أن يصنع القائد ''ساعة'' تظل حتى بعد رحيله من الشركة، بدلا من أن يتولى إخبار الآخرين عن الوقت!